عقدت العزم ذات ليلة على أننى سأذهب إلى جامعة القاهرة فى الصباح لأستلم شهادة دبلوم الترجمة الإنجليزية.
ذلك المشوار الذى أجلته مرات عديدة بحجة انشغالى فى العمل ومهامه أو لكسلى. وفى الصباح ذهبت إلى العمل ثم حصلت على إذن بالخروج وقصدت جامعة القاهرة.
كنت سعيدة سعادة بالغة بهذا المشوار لأننى كنت بحاجة إلى التحرر من جو العمل الذى يقوم على المال والربح فى الأساس وبحاجة إلى الإنعام بجو الجامعة الذى يقوم على القيمة والعلم فى الأساس ولو عن طريق استعادة ذكريات سعيدة جرت وقت الدراسة فى الدبلوم. ففى رأيى عالم المال والربح قاتل للروح إذا كان هو الغالب بينما عالم العلم والقيمة محى لها.
وعندما وصلت جامعة القاهرة ودخلت من الباب الرئيسى لأقصد مبنى الدراسات العليا بكلية الآداب، لم تسعفنى الذاكرة بالطريق المؤدى لمقصدى بالرغم من أننى ترددت عليه مرات على مدار عامى الدراسة بين السؤال على طبيعة الدراسة فى الدبلوم مرة والتقدم لاختبار القبول ثانية ومعرفة نتيجة الاختبار ثالثة وتقديم الأوراق المطلوبة رابعةً وهلم جرًّا. انتحيت جانبًا لأستعين جاهدة بذاكرتى البصرية وألتقط خيطًا منها أهتدى به لمقصدى بعد سؤالى اثنين من الطلاب لم يسعفانى. لقد تتبعت الخيط من ذاكرتى فأجدنى وصلت للمبنى الذى به قاعة المحاضرات التى كنا نتلقى فيها الدروس وليس مبنى الدراسات العليا الذى أقصده. تكرر هذا مرتين أن أطوف حول المبنى وأنتهى حيث بدأت وكأنى فى متاهة ربما بسبب التصميم المعمارى الدائرى للمبنى.
فاضطررت إلى أن أسأل طالبًا ثالثًا عن المبنى الذى أعنيه فهدانى إليه أخيرًا.
وقد أخبرت الموظفة المسئولة عندما وصلت بأن لى شهادة دبلوم فى الترجمة الإنجليزية دفعة 2007. ردت على باستغراب شديد وقالت: "أقول إيه على المصريين؟ حاصلة على الدبلوم عام 2007 وجاية تسأل عن شهادتها عام 2015 ؟!" رددت عليها بقولى: "نعم، نحن المصريين نسكت لكن لا ننسى، كما أن الشهادة كورقة لا تمثل لى شيئًا إذا قورنت بالعلم الذى اكتسبته لنيلها".
ضحك كل السامعين وأنا معهم وطلبت منى الجلوس بجوارها للبحث معًا عن شهادتى وسط مجموعة من الملفات المتخمة بالشهادات. وقد عثرت هى على شهادتى وسلمتنى إياها وفرحت بها فرحًا بالغًا وتركتها لأودع جامعة القاهرة.
أخذت أفكر وأنا فى طريقى للخروج من الجامعة لمَ مررت بهذا الارتباك ودخلت تلك المتاهة حتى أصل لما أريد؟ وانتهيت إلى أن السبب يرجع إلى أن جامعة القاهرة ليست جامعتى الأم فلو كانت لاستطعت أن أذهب إلى أى مكان أقصده فيها وأنا معصوبة العينين، فأنا أحفظ كل شبر فى جامعتى الأم ناهيك عن أننى لا أزال أحفظ أرقام قاعات المحاضرات وأين كنا نتلقى محاضرات كل مادة فضلًا عن أسماء الأساتذة الذين تعلمت منهم الكثير والكثير وأحفظ لهم الجميل ما حييت.
وبهذا الموقف قررت أن أرصد معنى الجامعة الأم فى حياة المرء وما دورها، وعن معناها فهى تلك الجامعة التى يحصل فيها المرء على درجة البكالوريوس أو الليسانس. أما عن دورها فمؤثر لدرجة يصعب نسيانها.
وقد أتسم بالجحود إذا لم أقل إن ذكرياتى فى جامعة القاهرة محفورة فى ذهنى أيضًّا وأننى أحفظ الجميل لأستاتذتى هناك أيضًّا ما حييت، لكن هذه الذكريات لا تتجاوز قاعة العلم وما يتعلق بالمادة العلمية التى كنت أبتغى تعلمها إذ كانت تمثل جامعة القاهرة وقتئذ جزءًا من الحياة؛ أما الجامعة الأم فكانت محورًا للحياة.
إن الجامعة الأم هى التى يمارس فيها المرء الاستقلال الفكرى على نطاق أوسع من البيت والمدرسة ؛ فالمرء أثناء دراسته فيها بصدد تعيين المبادئ التى سوف يسير عليها بقية حياته، لذا عليه أن ينتقى بعناية ويمعن فى الاختيار بين أن يكون إمعة يوجهه أشخاص أخذهم نبراسًا، يوجهونه كيف شاءوا ويتلقى منهم الأفكار على علاتها وأن يسلك منهج التفكير الحر الذى يبحث من خلاله دخائل الأشياء ويناقش كل شىء حتى يبلغ درجة من الاقتناع نتيجة البحث والتحرر فى التفكير لا نتيجة الوراثة والتقاليد والتلقين. ويدرك أن كل امرئٍ بما كسب رهين وأنه لا يغنى أحد عن أحد فى المسئولية.
وفى الجامعة الأم يختار المرء بين الحكم على الأشياء مع تأثره بنقاط ضعفه أم يتعرف أولًا على نقاط ضعفه ويأخذها فى الاعتبار ليمنع تأثيرها على حكمه على الأشياء.
وفى الجامعة الأم يختار المرء بين المبدأ القائل بأن كل الأمور نسبية وقابلة للأخذ والرد وأن المطلق الوحيد هو الله ومبدأ التشبث بما رآه سليمًا فزاد عقله جمودًا.
فكيف للمرء بعد الوقوف أمام هذه الاختيارات التى كانت تذهب النوم ليلًا وتشغل التفكير نهارًا أثناء دراسته فى الجامعة الأم أن ينسى معالمها؟ فهى بحق تكمل دور الأم.
إننى أكتب هذه السطور متمنية إحياء ذكريات سعيدة عن الجامعة الأم لمن تخرج فيها من القراء ولو فى مدة قراءتها.
وأكتب هذه السطور أيضًا لكل من لا يزال يدرس فى الجامعة الأم لكى يتحرى الاختيار ويمعن التفكير قبل أن يتخذ القرار، وإنه لا ضير من أن يقتنع بشىء بناءً على حجة لكن الضير فقط من أن يتشبث بهذا الشىء إذا ظهرت حجة ناقضة له.
أسماء راغب نوار تكتب: الجامعة الأم وذكريات لا تنسى
الخميس، 28 أبريل 2016 10:00 ص
جامعة القاهرة