ناجح إبراهيم

يوم بكى المستشار

الخميس، 24 مارس 2016 11:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كان المستشار جالساً يوم الجمعة بحضرة عدة لواءات سابقين من أقاربه وأصدقائه.. أمسك بالصحيفة وأخذ يطالع مقالاً عن الأم، انفجر باكياً دون أن يشعر، فقد تذكر أمه.. لم يتمالك نفسه واتصل بى وهو يبكى قائلا: أشكرك على هذا المقال الرائع الذى أنصفت وأثنيت فيه على أمك وكل الأمهات. ظل طوال المكالمة يبكى وهو يحدثنى عن أمه وتضحياتها، لا يدرى من أين يبدأ حديثه معى وعن أى فضيلة من فضائل أمه يتحدث، ففضائلها عليه وعلى أشقائه وشقيقاته أكثر من أن تحصى، كانت والدته من أسرة عريقة ووالدها عمدة للقرية وما أدراك ما العمدة فى الثلاثينيات والأربعينيات، وتزوجت من والده المستشار «محمد المرشدى بركات» الذى ينتمى لآل بركات باشا، أقارب سعد زغلول مفجر ثورة 1919 ومنهم «عاطف باشا بركات» الذى كسر باب البرلمان المصرى ليسمح للمعارضة بالجلوس فيه بعد أن منعوا من ذلك.

تهدج صوته فى التليفون وهو يتحدث عن أمه التى تفانت فى خدمة زوجها وأولادها، تذكر كيف مكثت أمه خمس سنوات كاملة تمرض والده وتعتنى به بعد أن أصبح طريح الفراش، لم تكن تتخلف عنه لحظة أو تتأخر ثانية فى رعايته دون منّ ولا أذى ولا تأفف ولا ضجر. انطفأ نور إحدى عينيه، فتمنى الجميع أن يفديه بعينه، تذكر قوله للدكتور عبدالمحسن سليمان، أستاذ العيون، خذ عيناً من عينى وأعطها لأبى فأنا راض بذلك فقال له د. عبدالمحسن: «ليته ينفع».

سرحت بخاطرى لحظة وهو يهاتفنى، حيث قفز إلى ذهنى مناظر الخطيب يشتم خطيبته الآن أو تشتمه، أو الزوجة التى تتطاول على زوجها ويتطاول عليها، أو الزوجة التى تكره أسرة زوجها ووالدته وتعاديهم دون مبرر، عدت إليه بعقلى سريعاً قائلاً له: كيف تبكى هكذا بكاء الأطفال على أمك وقد جاوزت السبعين وقد رحلت عن دنياك منذ سنوات طويلة؟!

فأجاب سريعاً: أنا لم أنسها أبداً، وإن كان مقالك عن أمك أهاج خواطرى اليوم بشدة، فقد كانت تصر على توديعى إلى محطة القطار عندما أسافر من القاهرة إلى الأقصر وكنت وقتها مديراً لنيابتها، فقد كانت تعتبرنى وإخوتى كل شىء فى حياتها، كانت تعتبرنى طفلها الصغير حتى بعد أن صرت قاضياً، تجرى خلف القطار الذى أركبه للأقصر وكأنها تودع ابنها إلى مثواه الأخير.

ويواصل المستشار «محمد محمد المرشدى بركات» بكاءه وكأنه طفل صغير ويتحشرج صوته أكثر قائلاً: موت أختى د. رقية المرشدى، الأستاذة بكلية الآداب، فى عز شبابها بعد أن تغلغل السرطان فى جسدها، كان قاصمة ظهر أمى، والفاجعة الكبرى فى حياتها، ولكنها واصلت رحلة عطائها مع ابنها محمد الذى أصبح أستاذاً كأبيه وأمه، والغريب أن أبى نفسه كان يتيماً أيضاً ورباه أخواله، وكانت أمى بمثابة الأم والأب له، لقد وصل أبى إلى أرفع درجات السلك القضائى وكان وكيلاً لنادى القضاة، وكانت أمى قادرة على العطاء باستمرار وبلا انقطاع، حتى إن أبى كان رئيساً لمحكمة الفيوم وكنت أعيش معه فتسافر خصيصاً لتحضر لى الكتب التى كنت أعشقها، وخاصة كتب العقاد، وتحضر الهدايا لأصدقائى.
قلت: لماذا هذه المشاعر الجياشة نحو أمك؟ قال: «لقد تعلمت من أبى عبارة رائعة كان يرددها مفادها: لو أمرنا الله أن نعبد أحداً بعده سبحانه لعبدت أمى «جدتك شفا»، وكانت اسماً على مسمى، فقد كانت شفاءً للعليل حقاً.

قلت له: وما هى آخر ذكرياتك مع أمك؟ قال: مرضت مرضاً شديداً فذهبت بها إلى المستشفى التى مكثت فيها فترة وامتنعت تماماً عن الطعام، فكنت أطعمها بالقوة فتغضب قائلة: «لقد نفذ سهم الله فى أمك فهل تريد أن تعاند القدر؟». فهكذا خطت أم المستشار إلى الدنيا وأتمت رسالتها فى رضا عن ربها ودينها وأسرتها، اللهم ارحم أمهاتنا فأول حضن احتضننا كان حضنها، وأول رضعة رضعناها كان من ثديها، وأول لقمة أكلناها كانت من صنعها، وأول بسمه رأيناها كانت بسمتها، وأول ملابس لبسناها كان من اختيارها وبيدها، وكل الآهات التى تتأوهها أمهاتنا كانت من أجلنا وجل سهرها كان لراحتنا، وجل تعبها كان لإسعادنا، فسلام على الأمهات فى الأولين والآخرين وفى كل حين.





مشاركة




التعليقات 1

عدد الردود 0

بواسطة:

صلاح إبراهيم

وصلت لأعلى درجات النضج الفنى

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة