في لحظة تأمل لما يجـرى حولنا حضرتنى الآية الكريمة في سورة "آل عمران" حيث يقول رب العزة "وتلك الأيام نداولها بين الناس" حقًا صدق الله العظيم فتلك الآية الكريمة كما تنطبق على العلاقات الفردية الإنسانية تنطبق على العلاقات الدولية بشكل كبير وتظهر جليًا في صراع الحضارات وصراع القوى العظمى وصعود وهبوط هذه القوى والامبراطوريات على مر التاريخ .
وإذا امعنا النظر في صفحات هذا التاريخ نجد أن هذه العلاقات والصراعات تتقدم وتزداد بتقدم الزمن وتطور العلم وازدياد الحاجات والأطماع الإنسانية توازيا مع تنوع وأزدياد وتطور القوة العسكرية التقليدية والغير تقليدية واكتشاف منابع ضخمة ومتنوعة للطاقة في انحاء متعددة من العالم، وظهر ذلك جليًا بعد الحرب العالمية الأولى والسباق الدولي المحموم بين دول القمة العسكرية والتكنولوجية والصناعية وبلغ ذروته في الحرب العالمية الثانية ليسفر لنا عن نظام عالمى جديد وقتها يتكون من قطبين عظميين هما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى وأصبح معظم العالم مقسم بين تلك الكتلتين ويدور في فلك هذا الصراع .
وظهر لنا نوع جديد من صراع القوى العالمية يسمى بالحرب الباردة والتى كانت تمثل تطورًا جديدًا في صراع القوى الدولية وبديلاً مؤقتًا عن الصراع العسكري المباشر .
وتنتهى تلك الحرب بانتصار الكتلة الغربية على المعسكر الشرقى بإنهيار الاتحاد السوفيتى والأنظمة التابعة له وينتهى نوعًا ما أسلوب الحرب الباردة بين قطبين كبيرين ليحل القطب الأوحد مؤقتًا على الساحة العالمية ولتتغير مرة أخرى طبيعة الصراع إلى قوة ضخمة عسكريًا واقتصاديًا تحاول ترسيخ نفسها لأكبر مدة ممكنة وقوى أخرى متعددة أقل في القوة العسكرية والاقتصادية ولكنها تتشابه في نفس الفكر وهو لماذا لا نذهب لمنطقة القوة العظمى لنحتل أحد اقطابها الخالية ؟ يجب أن نحاول وبالتاكيد سنصل، وهذا حقنا، أو هكذا يعتقدون .
انظروا معى لحنين هذه القوى الواضح نحو أحياء قومياتها التاريخية وخاصة التي كان لها شان ما في الماضى فنجد سلسلة أخرى من الصراع بين تلك القوى وكل يريد اجتياز تلك المرحلة الوسيطة إلى مرحلة القوة العظمى.
الوطن العربي وأوروبا الحديثة وروسيا والصين والهند وتركيا وإسرائيل وإيران واليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا كل هذه القوى في مرحلة صراع مرير الآن لأحياء أمجادها وقومياتها التاريخية والعودة للساحة العالمية في ثوب القوة العظمى مرة أخرى أو كبعضها الذي يحاول لأول مرة .
والسؤال الخطير هنا، من سيكون الفائز في هذا الصراع، وهل سيكون الفائز وريثًا للقوة الحالية الموجودة على الساحة، أمريكا، أم سيصل ليصبح فقط شريكا ومنافسًا يحصل من التورتة العالمية على جزء يخصه من هذه الشراكة أو المنافسة، وهذا سيدعونا لسؤال آخر لا يقل خطورة عن حالة القوة الحالية وهي الولايات المتحدة الآمريكية وحجم إدراكها لكل هذه المعطيات التاريخية وطبيعة الصراع الدولي الدائر ومسبباته وأهدافه وحجم تفاعلها بعد ذلك مع كل هذه العوامل والمتغيرات .
اتذكر جيدًا الرئيس الأمريكى أوباما عندما التقطته عدسات مصور محترف في أثناء هبوطه من الطائرة ممسكا بكتاب عنوانه "عالم ما بعد أمريكا" لمؤلفه فريد زكريا رئيس تحرير نيوزويك إنترناشيونال والذى صدر في مايو 2008 والذى يتحدث كاتبه عن المتغيرات الحالية في الساحة العالمية وفي الداخل الأمريكى وما سيكون عليه شكل العالم بعد امريكا " بوضعها الحالى "ونهاية فكرة القطب الاوحد في العالم. وقد توقفت طويلا عند هذا الموقف بالذات واعتقد أنه لا يجب أن يمر بسهولة على كل ذى بصيرة ، إذ انه يحتوى على إشارات هامة جدًا نستطيع منها تصور ماذا يدور في عقلية صناع القرار في الولايات المتحدة، النقطة المهمة الأولى هنا أذن هي هل إدرك حقا القادة الأمريكيين لهذه المقولات التي باتت تنتشر عن قرب انتهاء الأمبراطورية الأمريكية واخذوها مأخذ الجد، وهل هذه المتابعات جعلتهم أكثر إدراكا بالضرورة للمشابهات التاريخية في إنهيار القوى العظمى العالمية على مر التاريخ، وهل درسوها وفندوها واستخرجوا منها العوارض السياسية والاقتصادية والعسكرية وأيضا الاجتماعية والدولية التي أدت إلى إنهيار تلك الـمبراطوريات، هذا إذا يجعلنا نخرج باستنتاجين مهمين نستطيع منها أن ندرك إلى أين تتجه أمريكا بل ويجعلنا ندرك ابعاد وأهداف كثير مما يحدث على الساحة هناك وخاصة فوز دونالد ترامب على هيلارى كلينتون في الانتخابات الرئاسية الأخيرة وغيره من الابعاد والأهداف التي بالتالى لها تاثير خطير على الوضع الدولي بل وطبيعة واتجاه الصراع الحالى وشكله القادم وبالتالى شكل العالم في المستقبل وخاصة مصرنا الحبيبة التي سيكون لها بالضرورة نصيب كبير من هذا التأثير والذى سنجتهد أيضا في تحليل نتائجه على الساحة السياسية المصرية ومستقبل جماعة الإخوان وتيارات الإسلام السياسى ودور القوات المسلحة المصرية في الفترة المقبلة وما تتطلبه تلك الفترة من وعى شديد وتحركات محسوبة بدقة متناهية وعمل دؤوب واصطفاف جماهيرى خلف القيادة المصرية والقوات المسلحة وتلك أخطر نقطة في الأمر كله ، كل ذلك سنحاول استقرائه في المقال القادم باذن الله .