سطع فى سماء الفن المصرى علامات مضيئة لا يُمكن نسيانها، تفوقت بما تملكه من موهبة فذة وحضور طاغٍ على الشاشة، وعبقرية فى الأداء قلّما تتواجد فى سماءات أخرى عربية كانت أم عالمية، فقد حبا الله مصر مثلما حباها بنيلها وتربتها الخصبة، وموقعها المتميز، بإبداعات متنوعة حظينا نحن بها فقط دونًا عن غيرنا، لكى يسعد بها القاصى والدانى فى مختلف بقاع العالم .
منذ سنواتٍ قليلة وعِقد الإبداع بدأ فى الانفراط، أحمد زكى، يوسف شاهين، خالد صالح، فاتن حمامة، عمر الشريف، ممدوح عبد العليم، نور الشريف، وأخيرًا العظيم محمود عبد العزيز الذى لا يمكن أن تَصف الحروف مشهدًا واحدًا من أعماله الفنية العديدة .
سكندرى المولد والنشأة، عاشق للنحل حتى أنه أخذ فيه شهادة الماچستير، وعنه أخذ صفات النظام والدقة، والدأب فى العمل، فاكتسبت موهبته عند التحاقه بالفن صِقلاً مَيزه عن بقية أقرانه، بداياته كانت مع مُكتشف المواهب الفنان الكبير نور الدمرداش فى مسلسل "الدوامة"، بعدها انطلق فى السينما، ليصبح فتى الشاشة الأول فى ثمانينات القرن الماضى.
تنوعت أدواره بشكلٍ لافت للنظر، لكنها رغم تنوعها تميزت بطابع مهم، تَمثَّل فى قُرب هذه الأدوار من الشارع المصرى، بدأها بالعمل الرائع "العار"، ثُمَّ عمله الذى سيُخلد فى ذاكرة السينما العربية "الكيف"، ليُبدع أكثر وأكثر فى "الكيت كات" ورائعة داوود عبد السيد (الشيخ حُسنى)، وبين البطولات السابقة جاءت "الشقة من حق الزوجة"، "طائر الليل الحزين" مع القدير محمود مرسى، "حب لا يرى الشمس"، "جرى الوحوش".
عشقناه لصًا خفيف الدم، ممتزجًا بموهبة النصب فى أفلام "يا عزيزى كلنا لصوص"، "لك يوم يا بيه"، "ولكن شيئًا ما يبقى"، و"الحدق يفهم"، ليُطل علينا فى أعمال تحمل طابع الفانتازيا – ومع ذلك – صدقناه فيها كثيرًا مثل فانتازيا رأفت الميهى "سيداتى آنساتى"، و"قانون إيكا".
هل تعلم أن محمود عبد العزيز هو الوحيد من فنانى مصر قاطبةً القادر على تجسيد أى عمل مع أى فنانة، دون الحاجة إلى التفكير مُسبقًا فيما يُسمى الكيميا التى تتواجد بين بطلى العمل.
نعم، هو الوحيد وعندى الدليل على ذلك، فيلم "الدنيا على جناح يمامة"، كانت زوجته فى العمل الكوميديانة الجميلة سناء يونس، مشاهده معها كانت غاية فى الإبداع وكأنهما عملا معًا سنواتٍ عديدة، وهناك دليل آخر، فى عملٍ خفيف الظل، يحمل طابعًا اجتماعيًا لمشكلة عانى منها المجتمع فى وقتٍ ما، فجاء فيلم "خليل بعد التعديل"، هل كان يتخيل البعض أنه سينجح كثنائى مع الراحلة القديرة سعاد نصر؟!!، وقد قاسمته البطولة من؟! الجميلة "ليلى علوى"، هو الوحيد القادر على تحقيق المعادلة الصعبة التى يحلم بها أى مخرج ولا أحدٍ سواه، فالكيميا متوفرة طالما الدور يليق به، فلم لا؟! ولتقف أمامه أيًا ما تكون، لأنه "محمود عبد العزيز" وكفى.
ونأتى للعمل الذى أود الحديث عنه جدااااا، مسلسل "البشاير"، من قال أن محمود عبد العزيز نجمًا سينمائيًا قد ظلمه كثيييييييرا، فأبو المعاطى الذى أداه باحترافية لم يسبق لها مثيل المُبدع محمود عبد العزيز، أثبت بشكلٍ قاطع أنك أمام وحش تليفزيونى تفوق على نفسه كعملاق على الشاشة الفضية، ما هذا الأداء؟!!، وما هذه التفاصيل الصغيرة التى أتحفنا بها طوال مشاهد العمل، ويا لروعة تقاسيم الوجه وتعبيراته !!، حالة فنية غير طبيعية تعايشنا معها على مدار الحلقات وكان بطلها، أبو المعاطى.
وها نحن نشاهد الملحمة، ملحمة البطولات والتضحية، والوطنية، "رأفت الهجان"، سيمفونية صالح مرسى، والمايسترو يحيى العلمى، وبطولة القدير بحق، المتناغم مع كل من وقف أمامه فى هذا العمل الكبير، صاحب العزف المنفرد محمود عبد العزيز، هل ما شاهدناه أداء تمثيلي؟!!، بالطبع لاااا، فاندماج محمود مع الشخصية صعب وصفه، لدرجة جعلت كثيرين لا يعرفون من صاحب الملحمة الحقيقى، ولصق فى أذهانهم أنه محمود عبد العزيز، من هو رفعت الجمال؟!! نحن نعرف فقط رأفت الهجان، ومعهم كل الحق فى ذلك، فقد سحرنا بأدائه، قام بتنويمنا بشكلٍ مغناطيسى حتى لا نشعر أنه تمثيل، وأنه يؤدى، فظهر للنور عملا توافرت له كل مقومات النجاح، لأنَّ العبقرى أعطى بلا حدود وبشغف منقطع النظير، عيشنا معه حالة من المواطنة والفخر بمصريتنا لن تتكرر أبدًا مهما تعاقبت الأزمنة، وفتشنا عن أعمالٍ ملحمية أخرى، ليتم تقديمها، سيظل رأفت الهجان يُحلق خارج السِرب مُنفردًا، وسيظل وسامًا على جبين البطل، وباقى أبطال العمل، يتشدقون دومًا بأنهم من قاموا بالاشتراك فيه، ونحن سنظل نفتخر بأنَّ من قام بهذا العمل الممثل الوحيد الذى تتطابق مواصفاته مع مصريتنا الجميلة، وكان قبل هذا العمل الذى فاق كل التوقعات، قد قام بأداء دور ملحمى آخر، مساعد الطوبى فى "إعدام ميت" مع الجميل يحيى الفخرانى والرائعتين بوسى وليلى علوى، ووحش الشاشة فريد شوقى، وهو عمل توافرت له هو الآخر فرص نجاح عديدة، بسبب تجمع العديد من النجوم داخله، بالإضافة إلى قصته الممتعة.
واثقة تمامًا بأنى لن أستطيع الحديث عن كل أعماله – التى تجاوزت الثمانين عملاً – لكنى على قناعة تامة أن أعماله كلها ستظل عالقة فى ذاكرة كل فرد من أفراد أمتنا العربية من قبلنا كمصريين، فالإمكانيات التى لدى محمود عبد العزيز تؤهله لمكانة عالمية يستحقها عن جدارة، رحل عنَّا بجسده فقط، لكنه لن يرحل عن ذاكرتنا، عن أسمارنا وسهراتنا، فكل يوم هو ضيف على بيت من البيوت المصرية، ولن نمل أبدًا من ضيافته، فهو ضيف عزيز وغالٍ على قلوبنا جميعًا، نوقره ونحترمه، لأنه احترمنا فى كل ما قدمه من أعمالٍ ستُخلد ذكراه ما حيينا، وسيتوارثها أجيال عديدة، سنتباهى بوجوده قامة وقيمة فنية لن يجود الزمان بمثلها، فهناك محمود عبد العزيز واحد فى دنيانا باقٍ معنا إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون ..
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة