الناقد السورى حسان فلاح أوغلى عن رواية "جبل الطير": صرخة فى وجه الاستلاب

الثلاثاء، 01 نوفمبر 2016 02:30 ص
الناقد السورى حسان فلاح أوغلى عن رواية "جبل الطير": صرخة فى وجه الاستلاب رواية جبل الطير

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

بحدث مفاجئ صادم يستهل عمار على حسن روايته جبل الطير، فسمحان بطل الرواية يفتح النافذة ليجد الجبل قد طار من مكانه، لتحل مكانه حديقة غناء، حدث يستطيع من خلاله المؤلف أن يجعل قارئه طوع بنانه، يتابعه فى كل تفصيل صغير من التفاصيل التى تمتلئ بها الرواية التى استندت إلى كتب الدين والتاريخ والأساطير والأنثروبولوجيا. ومن خلال "الرحلات" التى يقوم بها خفير الآثار "سمحان" إلى المحطات التاريخية التى شهدتها مصر منذ آلاف السنين، تحولت الرواية إلى سفر يرصد كثيراً من الطقوس التى كان المصريون يمارسونها، سواء فى حياتهم اليومية، أو معتقداتهم على اختلافها.

اختار الكاتب "الواقعية السحرية" فى كتابة روايته هذه، وهو اختيار لم يكن عبثياً أو اعتباطياً، بل كان وسيلة ليتحرك بقارئه يميناً وشمالاً، ماضياً وحاضراً، وليستعيد تجارب الإنسان منذ بدء الخليقة، فإذا هى تجارب تستنسخ نفسها، وتحكى قصة الإنسان الذى وجد نفسه بلا اختيار فى الدار الدنيا، فكان عليه أن يواجه أسئلة كثيرة وألغازاً معقدة، تصيبه بالعجز حيناً، وتدفع به حيناً آخر إلى التمرد.

حب البقاء الذى كان الجنس مفتاحه الأول لم يعد يغرى الإنسان، فكان بحثه عن الخلود الذى حرم منه ذات يوم، ومعه كانت رحلة الإنسان وارتحاله بين الأماكن... لكن المغامرات كلها لن تجدى، وسيسلم الإنسان فى النهاية بأن هذه الحياة: "ليست سوى رحلة قصيرة على التراب، أما فى الأثير الذى لا نهاية له فسيدوم الأجل، والفوز لمن عمل لما سيكون هناك".

لا يضيع عمار على حسن فى متاهات الزمن التى نسج من خلالها روايته، فالعقل البشرى تطوّر على نحو ملحوظ، فما كان رائجاً ذات يوم من أن كل شخص يبعث على ما يكون عليه، سواء كان حاكماً أو غنياً، أو عبداً فقيراً، سيتلاشى أمام حكم التجارب الإنسانية، وسيتساوى فى ذلك الفقير والغنى، والحاكم والمحكوم، تلك هى النتيجة التى ستفضى إليها تساؤلات سمحان حول "الرجل الفقير الملفوف فى حصير ينام على قارب صغير متوجهاً إلى قبره، وذاك الذى ظلوا سبعين يوماً يجهزونه بأثمن الأشياء، هذا سيتحلل جسده، ويأكله الدود بعد أن يتسلل من فتحات الصندوق المطمور تحت التراب، وذاك سيبقى جسمه آلاف السنين"!.

لا يكتفى الكاتب من خلال الكم الهائل من المعلومات والسرد المتداخل فى الرواية بأن يكون راوياً لتلك الملحمة التاريخية، يقف على الحياد فيما يقدمه من رؤى مختلفة، وما يريد أن يقوله يظهر بين الفينة والأخرى على لسان بطله سمحان، وشيخه عبدالعاطى، الذى يتجلى فى الرواية بأكثر من ظهور، فهو النبى إدريس، وهو أخناتون، والخضر، والصوفى الذى تربطه بربه علاقة فريدة نادرة قائمة على المحبة المتبادلة: "إن جميع الناس الذين سويت وجوههم لكيلا ترى نفسك وحيداً، يغشاهم النعاس حتى لا يرى واحد منهم ما قد خلقته، ومع ذلك فإنك لا تزال فى قلبي"...

"جبل الطير" رحلة فى حياة الإنسان وقلقه الوجودى وتوقه إلى العثور على إجابات لأسئلته التى لا تنتهي. و"سمحان" خفير الآثار الذى كان لـ"كراسة" عبدالعاطى الدور الرئيسى فى المسار الذى انتهجه والدروب التى سلكها، والذى غدا صوفياً ورعاً يتحدث الناس عن كراماته، هو تجلٍّ وصورة جديدة لأشخاص خاضوا التجربة نفسها منذ بدء الخليقة، فمنهم من ضل السبيل، ومنهم من كان هادياً مهدياً.

الأسئلة التى طرحها ذات يوم الراحل أسامة أنور عكاشة على لسان حسن النعمانى بطل روايته "أرابيسك" أو "أيام حسن النعمانى” عن هوية المصريين الحقيقية، يحاول عمار على حسن أن يؤصّل الإجابة عنها من خلال استعراض تاريخى متداخل زمنياً، عبر استعراض "من" سكنوا مصر أو مروا بها و"ما" شهدته من أحداث، ليصل إلى خلاصة دوّنها عبدالعاطى فى كراسته التى تمثل لمصر "اللوح المحفوظ": "مصر وثيقة قديمة من جلد رقيق، الإنجيل فيها مكتوب على ما خطه هيرودوت، وفوقهما القرآن، وتحت الجميع لا تزال كتابة الفراعين تقرأ بوضوح وجلاء".

رواية جبل الطير على ما فيها من سحر وجمال ليست مجرد نزهة أو تطواف فى مسرح التاريخ، وإنما هى صرخة مدوية فى وجه القوى الظلامية التى تحاول استلاب العقول وإخضاعها، وإعلاء من قيمة العقل البشرى الذى يستطيع أن يقاوم إلى أبعد الحدود، فلا يركن إلى أى سلطة كهنوتية أو لاهوتية أو سياسية: "العقائد والأفكار لها أجنحة، لا تموت لمجرد أنكم قد نلتم من أصحابها عنوة، وجمعتم خلفكم العوام لتجعلوا الباطل يغلب الحق". وكأنه بهذه المقولة الأخناتونية يحاول أن يؤكد أن محاولات الكهنة الإساءة إلى شخص "أخناتون" وفكره لم تنل من بريق فكرته ودعوته.

"أخناتون" بطبيعة الحال يرمز هنا إلى الفكر المستنير الذى لم يثنه شيء عن قول ما يريد، ولم يفرط بنفسه يوماً، إنه النمط الذى يعشقه عمار على حسن، ويسعى إلى تمثله روحاً وفكراً. ونحن هنا وإن سلمنا بمقولة رولان بارت بأن النص "مجرة من الدلالات غير المتناهية"، وأن للقارئ مطلق الحرية فى توليد معانى النص باعتباره منجماً ولوداً مكتنزاً، فإننا لا بد أن ننحو منحى الغذامى الذى يرى "أن مفهوم الموت لا يعنى الإزالة والإفناء، ولكنه يعنى تمرحل القراءة موضوعياً من حال الاستقبال إلى التذوق، ثم إلى التفاعل وإنتاج النص وهذا يتحقق موضوعياً بغياب المؤلف، فإذا ما تم إنتاج النص بواسطة القارئ فإنه من الممكن حينئذ أن يعود المؤلف إلى النص ضيفاً عليه". ومن ثمّ فإن روح عمار على حسن لا يمكن إلا أن تظل ترفرف على قراءتنا لنصه المنفتح على قراءات كثيرة تجعل من قرائه منتجين لا مستهلكين طبقاً لرولان بارت أيضاً، ولعلنا بذلك نخفف من غلواء البنيوية فى إلغاء "أنسنة" النص.

"رحلات الملح" والنقاشات التى دارت فى أثنائها بين "برهان" و"سمحان" تعكس هى الأخرى جانباً مهماً من فهم المؤلف للكون وخالقه، فعمار على حسن (سمحان أو عبدالعاطي) المتصوف أخلاقاً وسلوكاً، لا يرى أى تناقض بين الإيمان بالبعيد والخارق والغيبى، وإعمال العقل والتفكر فى ملكوت الله، كلاهما يفضى إلى حقيقة واحدة، هما طريقان قد يتقاطعان، ولكنهما لن يكونا متناقضين البتة، وكلٌّ يصل إلى إيمانه بالطريقة التى ترضيه وتريحه، ومن ثم يمكن التخلى عن "التهافت" و"تهافت التهافت"، والالتفات إلى مد جسور التواصل بين الجميع دون إقصاء أو إلغاء.

ليس سهلاً أن تقرأ فى عجالة كهذه رواية ملحمية بحجم "جبل الطير" التى تقع فى نحو ستمائة وخمسين صفحة، والتى ختمها المؤلف بصفحتين من المصادر والوثائق الدينية والتاريخية والمعرفية التى محصها وسبر أغوارها قبل الشروع بكتابة هذا السفر. ولعل فيما قدمته إضاءة لبعض ما أرادته الرواية أو المؤلف الذى يرسى يوماً بعد يوم دعائم مشروعه الروائي.










مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة