قبل الليلة كان كل شىء مؤلما.. قبل الليلة كنت أتحسس من كل شىء.. ترهقنى التفاصيل ويتلاعب بى الحنين وأترامى بين ذراعى الشوق..
قبل الليلة لم يكن كل شىء على ما يُرام.. لطالما كنت مستاءً.. زوجتى وفاتورة الكهرباء.. كلتاهما مزعجتان.. كلتاهما يتناوبان على ارهاقى ويحلان محل الكوابيس النهارية
!ايجار الشقة.. ومصاريف طفلى.. يالها من أشياء تثقل كاهلى
منذ الليلة.. انا بخير.. فقد وجدت طريقتى للخلاص.. اختفيت
لم تكن تعويذة سحرية ألقاها على الكاهن الأعظم.. ولم تسكن الأرواح الشريرة جسدى.. ولم أتبادل الأدوار مع قرينى.
أنا فقط استيقظت فى مكان جديد.. لا أعرفه.. وحدى تماما.. لا أعرف أين أنا ولا طريق العودة إلى شقتى.. وحتى أن كنت أعرف طريق العودة فإننى لا أفكر فى العودة مطلقا.. على الأقل فى الوقت الحالى.
سمّه أن شئت هروبا..أو اجازة صغيرة.. سمّه كما تشاء.. ليس مهم بالنسبة لى.. سوى أننى مرتاح منهم.. من تكاليف معيشتهم الباهظة ومن ازعاجهم ومن مسئولياتى المتراكمة.
بخير أنا كما تنظر.. لا ينقصنى شىء.. سوى أن أعرف اتجاه القبلة وأن أعرف الوقت والتاريخ.
أى الأيام اليوم ؟.. لا يوجد هنا ما يدل على التاريخ.. وأين هى ساعتى التى لم أكن أتركها إلا على الطاولة بجوار سريرى.
مرّ الوقت بمحاذاتى لم أشعر به.. شعور كالقلق بدأ يتسلل داخلى.. كيف حال ابنائى
جميلتى الصغيرة " أيلول " كانت تعانى الحمى الليلة البارحة.. يا ترى كيف حالها..؟
غداً آخر موعد لدفع الايجار.. ينبغى على أن أدفع للمالك وإلا سيطرد عائلتى خارجا
المال بأكمله فى رصيدى فى البنك لكن لا أحد يعرف كلمة السر سواى
على العودة.. إلى الجزء الصاخب فى حياتى.. فليكن
كلما رغبت بالعودة الغرفة الحمقاء تضيق بى.. تأسرنى داخل جدرانها.. كلما توجهت إلى الباب شيء ما يشدنى إلى الخلف.. وكأننى مقيم هنا تحت الاقامة الجبرية.. أنادى بصوت لا يشبه صوتى.. هنا أنا هنا.. أرجوكم المساعدة
جدران الغرفة تكاد تخنقنى.. أبكى.. لكن.. هل جفت دموعى.. لا دموع وصوتٌ لا يشبهنى
أسمع وقع أقدام يقترب منى.. أنادى بذلك الصوت الذى لا يشبهنى.. النجدة.. أرجوكم
يحطم الباب رجل ملثم.. يمسك يدى.. يخرجنى.. ليلة مظلمة لا أعرف تاريخها ربما اليوم أول الشهر الهجرى أو آخره.. هكذا أخبرنى غياب القمر.. بعدما خرجت نظرت خلفى.. أين ذهبت الغرفة التى أُحتجزت فيها.. أين اختفت؟
امسكت بيدى هذا الغريب.. أسير خلفه بلا توقف.. أتبع خطواته.. حتى اختفى.. وآثار الأقدام خلفى لا تشير إلى أى سائر
على بعد.. وجدت امرأة ملثمة للوهلة الأولى ظننتها تائهة وبيديها طفلين أو طفلتين لا أعلم فالظلام حالك
اقتربت منهم ليس لأجل المواساة.. بل لايجاد مخرج من ورطة لا أعلم تفاصيلها
امرأة لا تُحادث الغرباء " هكذا ظننتها ".. ولا تنظر لأعلى من مستوى قدميها.. تسير وتسير بخطوات أسرع من أن تتحملها امرأة عادية.. ابتعدت عن عينى لم أعد أراها
أصوات عالية لا أجد لها مصدرا.. وعلى الشجرة عينان جاحظتان تُحملقان بى.. طائر يشبه البومة.. يتحدث لهجتى له نفس صوتى القديم
طريق طويل.. بلا وجهة.. سوى هرب من مجهول نحو مجهول.. رجل عجوز يرتدى عباءة صوفية فى ليلة شديدة الحرارة.. يجلس.. جلسة غريبة تشبه جلسة جمل نائم.. اقتربت منه القيت التحية.. ظهر الرعب على وجهى وأناره فى هذه الأرض المقفرة.. انه وجه بلا تفاصيل.. أخفى وجهه بلثام.. وأن أخفاه.. ستظل.. تلك الصورة عالقة فى ذهنى.
بصوت أجش.. قال لى.. ستعتاد ذات يوم.. اذهب إلى ذلك الكوخ
هم هناك بانتظارك.. أجر قدمى.. جرا نحو الكوخ.. إما أن يكون خلاصى أو يكون فيه هلاكى
فتحت لى نفس المرأة الملثمة.. دخلت.. طفليها يجلسان على المادة.. ينتظران أباهم
اِجلِس قالتها بصوت ناعم.. هذا الصوت اعرفه.. لكننى لا أذكر صاحبته
سقط الطبق من يدى الطفلة.. صرخت الأم.. أيلول أيتها الحمقاء.. أنت معاقبة..
ذهبتُ إلى الحمام.. أغسل يدى ووجهى من عناء الرحلة واسترخى.. نسيتُ الباب مفتوح.. نظرت اليهم من خلف الباب.. ارتعبت من المنظر طفلة وفتىً بلا وجه.. صرخت.. اقتربت منى المرأة امسكت بمقبض الباب..فتحته بقوه.. هل أنهيت حمامك يا عزيزى ؟.. انه صوت زينب زوجتى.. اطمأننت نظرت اليها.. اقتربت منها كى احتضنها.. نظرت اليها.. ارتعبت.. هى الآخرى بلا وجه
تراجعت بسرعة.. أغلقت باب الحمام على بشدة.. اسمع طرقاتها القوية على الباب افتح يا عزيزى.. تغير الصوت.. ازداد غرابة.. فتحت صنبور المياة.. لا يوجد ماء.. نظرت إلى وجهى فى المرآة.. لم أجده.. أتحسسه.. وأتحسس تفاصيله دون جدوى
خرجت اليهم.. وأكملت معهم طعام العشاء
تذكرت.. أننى كل يوم منذ عشرين عام أنسى.. تلك الحادثة المروعة التى حرقت وجوهنا وأودت بحياتنا.. ولن تطمئن أرواحنا حتى تموت جارتنا التى سافرت وتركت الغاز مفتوح ومع أبسط شرار تحولنا إلى جثث هامدة.
أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة