(1)
منذ أن بدأ يتحرك فى أحشائى وأنا أتحدث معه، أخبرنى الطبيب أنه ولد، كانت سعادتى مضاعفة تمنيت كثيرا أن يكون أول أبنائى رجُل، أنتظرته بلهفة وشوق كنت أسافر معه حول العالم أقتنص ساعات من العمل والصخب لأضع يدى على بطنى المنفوخة وأتحدث إليه، كم كان هذا الحديث ممتعا وكم كانت هذا اللحظات تمر سريعا.
سمعت زوجى يوما يشكونى لأمه قائلا:
كل هذا الحب وهى لم تره بعد فكيف حالنا بعد أن يأتى؟
لم أكترث كثيرا بشكواه فحبى الجديد أولى بالرعاية، حدد لى الطبيب يوم مولده، أرتجف قلبى، عندما استقيظت من غفوة البنيج، سألتهم أين هو؟
وضعوا يده الصغيرة على خدى فبكيت وبكيت حتى أعيانى البكاء والفرح، كل يوم فى حياتى معه كان يمر هكذا بين السعادة العارمة والخوف الشديد عليه، كم كنت أطوق إلى ابتسامته التى لم أرها منذ ولادته على عكس كل الأطفال!
أكمل عامه الأول وهو لا يبتسم لا تتلقى عيوننا أبدا، دب القلق فى قلبى وشعرت أن ابنى ليس طبعيا، حملته على كتفى كنت أخاف أن أضعه فى عربة الأطفال فيبعد عن دفء صدرى، الطبيب كان قاسيا، نظر إلىّ قائلا:
هذا الطفل مصاب بالتوحد، لم أقو على حمل جسدى المنهك، دارت بىّ الدنيا وغاب عن عيونى النور، شرح لىّ على عجالة ما هو هذا المرض وطرق علاجه، آلمنى جدا أننى لم أر ابتسامة طفلى الوحيد التى اشتقت إليها كثيرا، كان زوجى أكثر قسوة وهو يقول:
لننجب طفل آخر!
وقعت الكلمة على قلبى كالصاعقة، وتركت المنزل وقررت أن اتوحد معه.
(2)
اليوم أتم إبنى عامه العاشر، وأنا أجلس فى حفل أعدته المدرسة، حقيقة لا أعرف لماذا أقامت المدرسة هذا الحفل ولكننى اعتدت أن أذهب كلما طلبوا منى، المكان صاخب والمدرسون أصروا على إبعادى عن المكان، جلست فى غرفة بمفردى أنتظر دعوتى لحضور الحفل، كانت أشعر بالدهشة ولكننى منذ تفرغت له وأنا لا أجد الأمان إلا فى وجودى معه.
بعد ساعة دعونى لقاعة الاحتفالات، القاعة ممتلئة بأولياء الأمور، الأغانى تملأ المكان، رائحة الورد والأمل تغطى على وجع السنين، جلست فى المقعد الأمامى كما طلبوا منىّ، انطفأت الأنوار وبدأ الحفل، غنوا معا أغانى جماعية المجموعة كلها شباب وأطفال لهم حالات خاصة على اختلافها، غالبا ابنى لا يقف مع المجموعة لأن حالته لا تسمح بسماع الصوت العالى، ولا بالتجمع لذا لم أجهد نفسى فى البحث عنه ولكننى فجأة رأيته واقفا مع المجموعة، تعالت دقات قلبى خوفا عليه ولكنه بدأ معهم فى فى الغناء !
بدأت أشعر بالهدوء، وانتهت فقرة الأغانى الجماعية، وجاءت فقرة الغناء الفردى وأعلنت مدرسة الموسيقى اسم فتاى الوحيد الذى يغنى بمفرده لأول مرة.
يا لهذا القلب الذى أجهدته دقات الخوف عليك يا حبيبى، كانت الأغنية عن الأم ورأيته لأول مرة ينظر لىّ من بين الحضور تعلقت عيونه بعيونى، ظل يغنى لى ّ وفى نهاية الغنوة ابتسم، رأيت ضحكته الحلوة التى أخفاها عنىّ هذا التوحد، انتصرت عليه هزمته ووقفت فى صورة واحدة مع ابنى ينظر لىّ ويبتسم، قالت ناظرة المدرسة للحضور:
الحفل اليوم لآدم ووالدته التى حاربت المرض وأصرت أن ترى ابتسامة طفلها الوحيد، آدم أصبح فتى يشار له بالبننان متفوق دراسيا ورياضيا، الحفل شكر لهذه المحاربة.
صفق الحضور، بكيت وبكيت ولكن بكاء مختلفا فى هذه المرة، إنها دموع تمتزج بالفرحة، حالة البهجة التى تعُم المكان كانت ترسل رسائل الأمل لكل أم مثلىّ، رأيت طليقى يقف فى أخر الصف يبكى ، ورأيت آدم يضحك.
موضوعات متعلقة..
اليوم.. مناقشة المجموعة القصصية "حياة قيد الاحتراق" بمكتبة الإسكندرية
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة