لا أعرف لماذا مر هذا على خاطرى الآن وأنا واقف فى طابور الانتخابات
أنا «ولا سياسى ولا مثقف» أنا غلباااان، فعلا غلبان.. مجرد فراش أو ساعى أو رئيس قطاع المياه السخنة كما يحلو لى أن أصف منصبى الرفيع. أعمل فى شركة كبيرة للاستشارات الهندسية منذ تسع سنوات والحمد لله قانع وراضٍ، رغم الكثير من السخافات التى أواجهها بسبب عملى وترتيبى الاجتماعى.
فالبعض يعاملنى «كويس» والبقية «مطلعة عينى»، إلا أن أحدهم كان يعاملنى باحترام شديد.. المهندس سيد عبدالله الذى كان يتركنى أجلس على الكرسى المواجه لمكتبه وأنا أتحاور معه وقد يدعونى لذلك بنفسه حينما يستغرق فى الرد على أحد أسئلتى السياسية العويصة.. وكم أحببت حواره.
كان يشعرنى بأنى أنسان.. آدمى.. لى حقوق وعلى واجبات، وعلى الجميع احترامى مادمت أقدم لهم نفس الاحترام. طبعا أنا معقد قليلا من موضوع الاحترام، خاصة أن عملى يفرض على تقديم الاحترام للجميع والتغاضى عن استقباله. لذلك أعطانى حوارى مع أستاذ «سيد» قوة فى طلب حقوقى المعنوية بشكل واضح. هو حتى الذى صاغ لى عبارتى المشهورة «يا فندم أنا بحاول أقدم كل طلباتك باحترام، وأتمنى أن أنال بعض الاحترام كحق إنسانى ودستورى»، جملة بليغة جدا لم أفهمها حين اقترحها على للرد على المتجاوزين الشتامين.. ساعتها حفظتها عن غير فهم، واكتشفت أن لها مفعول السحر. فهم يبهتون فى البداية وقد يسخرون قليلا، ولكنهم يتوقفون عن شتمى بعد ذلك رغم «لسانهم الزلف»!!.
طبعا كان هذا يكفينى لأصنع «للبشمهندس سيد» أجمل فنجان قهوة. وللحقيقة الرجل كان سخيا معى فى كل شىء هو أصلا «بنى آدم أوى» مع الجميع. لذلك تأثرت به بشدة رغم أن كلانا فى الثلاثينيات فإنى اعتبرته أستاذى. فكنت أسأله فى كل شىء وهو يجيب على كل أسئلتى أحيانا باقتضاب وأحيانا بالتفاصيل وأحيانا يرد فى غضب مفتعل «أنا مش فايق لك دلوقتى يا حسين».. فيمضى حسين ضاحكا «اللى هو انا»، ويعود آخر اليوم حينما يشعر أن الأستاذ خلص شغله. كنت أشاهد برامج «التوك شو» وأسمع المثقفين والسياسيين يتناحرون ويتشاجرون على أشياء لا أفهمها مثل الحرية الاجتماعية وحقوق المواطنة والمجتمع المدنى وسيطرة الرأسمالية. كنت أسمع وأخزن وهو يجيب ويحلل.
عشت معه كل أحلامه فى ثورة 25 يناير، وشعرت بقلق فى المرحلة الانتقالية، وشرح لى أسباب كرهه للإخوان، وفهمت منه معنى الاستبداد الدينى، وأنه لا يختلف عن استبداد القوة، وقابلته على كوبرى قصر النيل فى 30 يونيو، ووزعت الشربات الذى اشتراه للمكتب كله بعد تأييد الجيش للثورة.
ومرت الأيام والأحداث وأنا تلميذه أفرح لفرحه، وأحزن لهمه، وأشاركه آماله العريضة.
ولكن مع تكرار لحظات اليأس والإحباط وانتشار الشبورة والسراب. انغلق الأستاذ سيد على نفسه، فلا هو حزين، ولا هو «مبسوط»، حتى إنه توقف عن الرد على أسئلتى وأصبح يكتفى بابتسامة ساخرة خالية الوفاض.
ولم يلبث أن سافر للعمل فى إحدى الدول الأوروبية وحينما سألته لماذا ستتركنا وتترك أحلامنا الكبيرة نظر لى فى شفقة قائلا «مفيش حاجة اسمها أحلام يا حسين!!».
ولا أعرف لماذا مر على خاطرى الآن وأنا واقف فى طابور الانتخابات فى مجلس الشعب؟ يمكن لأنى تهت بين المرشحين ولم أعرف من فيهم الجيد ومن فيهم «المصلحجى الأفاق» أم لأنى اخترت فى النهاية أن أعطى صوتى لمجهول الهوية الذى يوزع 200 جنيه لشراء الأصوات. أم تذكرته لأنى شعرت وأنا التقط الـ 200 جنيه بالخجل وقلة الاحترام، وهو الوحيد الذى كان يعاملنى باحترام.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة