أرسل (ع) إلى افتح قلبك يقول: أنا رجل عمرى 64 عاما, لواء جيش متقاعد, رزقنى الله بثلاثة أولاد, أرسل لك اليوم بخصوص أولاهم, ابنتى البكرية التى طالما كانت قرة عين لى.
ابنتى خريجة كلية التجارة قسم اللغة الإنجليزية, خرجت منها وهى عازمة على الارتباط بأحد الشباب من دفعتها, رتبت له موعدا لمقابلتى دون أن تعطينى أى معلومات عنه, ولم يكن على لسانها سوى (هو قادر على أن يعرفك بنفسه), فقابلته, وكان شابا وسيما ولبقا, وواضح من عينيه أنه طموح ويرى لنفسه مستقبلا ما, لكنى لاحظت شيئا آخر فى عينيه أيضا, رأيت (الحرمان)، نعم، فبالرغم من وسامته إلا أن اصفرار وجهه وغوار عينيه يدلان بقوة على حالة صحية ومادية متواضعة للغاية, وبالفعل قال لى إن والده كان موظفا بسيطا فى السكة الحديد, ووالدته سيدة لا تقرأ ولا تكتب, وأنها تعيش معه, أو بالأحرى هو الذى يعيش معها فى بيتهم إيجار قديم، بعد وفاة والده, وزواج أختيه الاثنتين.
سألته كيف سيستطيع فتح بيت, فأجاب أنه يعمل منذ أن كان طالبا فى الجامعة, وأنه يبحث عن فرصة سفر للخارج, وأنه لا يطمع إلا فى موافقتى على خطوبة بشكل مبدئى, ولنحدد موعد الزواج بعد أن تستقر الأوضاع, طبعا لم يعجبنى الحال, لن أقول لك إننا من الطبقة الراقية, وإنى من الأغنياء, ولكنى جاهدت لتربية أولادى فى مستوى معين, فكلهم خريجو مدارس لغات معروفة, ونعيش فى بيتنا الخاص فى منطقة راقية, لى سيارتى ولهم سيارتهم الخاصة, ولكل واحد منهم مبلغ معقول فى البنك, لهذا لم أكن أتخيل فى يوم من الأيام أن (أرمى) ابنتى هذه الرمية أبدا.
صارحت ابنتى بعدم موافقتى على الموضوع, وطلبت من والدتها أن تحاول صرف نظرها عنه, لكن هيهات, كان الأوان قد فات, فقد نجح هذا الشاب فى جعل ابنتى متعلقة به أيما تعلق, فكانت تقول عنه دائما إنها لن تجد من يحبها أكثر منه فى هذه الدنيا, وتحت إلحاحها وضغطها علينا قبلت أن أعطيه فرصة أخرى, وطلبت منه أن نزوره فى بيت والدته, والذى ستعيش فيه ابنتى بعد الزواج, وبعد مماطلة شديدة وافق على زيارتنا لهم, وكان معه حق, فالبيت كان صدمة بكل معنى الكلمة, منطقة شعبية جدا, بيت قديم أرضيته من الخشب المتهالك, عبارة عن غرفتين ينام هو فى إحداهما وتنام والدته فى الأخرى, والصالة أو مكان استقبال الضيوف عبارة عن كنبة بلدى واحدة أمامها أصغر تليفزيون رأيته فى حياتى.
نظرت لوجه ابنتى عندما دخلنا المكان فرأيت الصدمة فى عينيها, فاطمأننت إلى أنها ستغير رأيها بعد أن رأت شكل مستقبلها بنفسها, ولكنها وبكل أسف أنكرت كل هذا وأعلنت لى أنها لا زالت متمسكة به, ولا تريد أحدا غيره, وأنها على استعداد لأن تعمل وتساعده حتى يتمكن من السفر, وحينها سيتغير حاله, وسيستطيع إحضار كل شىء لها.
قد تعتقدين يا دكتورة كما اعتقدت ابنتى أنى اعترضت على الفقر أو المستوى المادى فقط, ولكنه فى الحقيقة كان مؤشرا إلى ما هو أخطر وأعمق, فكان يجب على أن أتخيل شخصية هذا الشاب الذى نشأ وتربى فى هذا المكان وتحت هذه الظروف, كيف كانت؟.. وكيف ستكون؟.. وكيف سيعامل ابنتى وهى التى لم تعتد على مثل هذه الحياة الصعبة أبدا؟.. تملكنى الرعب من شكل حياتها معه, ومن التوابع الممكن حدوثها لهذا الزواج, فرفضت بقوة, وتمسكت بموقفى إلى أبعد الحدود, وأخبرتها أنها إذا أصرت على الزواج به فلتتزوجه بمفردها, ولتنس أن لها أبا أو أهلا.
مرت علينا فترة صعبة جدا, رأيت فيها ابنتى تذبل وتتلاشى مع الأيام, وترفض كل من يفكر فى التقدم إليها أو التقرب منها, وكأنها تعاقبنا على عدم موافقتنا على إلقائها فى هذا الهلاك, حتى وصل الأمر إلى أن دخلت المستشفى فى يوم من الأيام بسبب هبوط حاد فى الدورة الدموية, والذى نتج عن ضعفها الشديد فى تلك الفترة, فإذا بأمها تتوسل إلى وتقبل قدمى كى أوافق على هذه الزيجة حتى لا نفقد البنت, تعجبت من طلبها لأنها هى الأخرى كانت معنا ورأت بعينها أننا حتما سنفقد هذه البنت إذا وافقنا على هذا الشاب, وأنا أيضا أتمزق من داخلى من أجل ابنتى, لكنى لا أرى أبدا أن هذا هو الحل, المهم، وافقت على مضض بعد أن أصبح الأمر رغبة ملحة لها ولأمها ولأختها الصغرى التى تأثرت هى أيضا بمنظر أختها وهى ملقاة فى المستشفى بين الحياة والموت, ولكنى لم أحضر كتب الكتاب, وأخبرتها بأن تختار عمها أو خالها وكيلا لها, ورفضت أن أجهزها, فأين ستضع الأثاث والأجهزة التى سأشتريها لها؟, كل ما أعطيته لها هو مبلغ 5 آلاف جنيه لتشترى لنفسها ما تحتاجه من ملابس وخلافه, فقط.
زفت ابنتى دون حضورى, فقد رفضت أن أضع يدى فى يد هذا الولد, أو أن أبارك له اختطافه لابنتى رغما عنى, ولم يكن معها سوى أمها وأختها, لأن أخاها حتى كان مسافرا فى ذلك الوقت, تزوجت ابنتى فى يوم كئيب, مظلم من أيام الشتاء القارس, مليئا بالأمطار والبرق والرعد, وكأن الدنيا كانت غاضبة هى الأخرى على هذا الزواج.
قاطعت ابنتى بعدها لمدة 5 سنوات كاملة, لا أزورها, ولا أسمح بدخولها إلى بيتى مع زوجها, وبالتالى أصبحت لا تأتى نهائيا, لم يكن بينى وبينها أى صلة غير أمها التى كانت لا تراها هى الأخرى, وإنما تتصل بها من حين لآخر لمعرفة أخبارها, وبكيت عندما عرفت أنى سأصبح جدا, وأن ابنتى سترتبط بهذا الشخص برباط أبدى بهذا الحمل, كان عندى أمل أن تفيق وتعود قبل أن يحدث هذا, ولكنه حدث وسريعا جدا, فقد أنجبت ابنتى قبل مرور عام واحد من زواجها, وكانت تطمئن أمها عليها وعلى مولودها من حين لآخر, وكأنها غريبة عنا وليست ابنتنا, وكأنها ماتت وفقدناها إلى الأبد.
ظل الحال على ما هو عليه حتى وجدنا ابنتى تلك تطرق بابنا فى يوم من الأيام وهى حاملة ابنتها على كتفها, وكلتاهما تبكيى، كانت هذه هى المرة التى أرى فيها ابنتى منذ 5 سنوات, منذ ذلك اليوم المشئوم الذى تزوجت فيه, وبالطبع كانت المرة الأولى أيضا التى أرى فيها ابنتها، حفيدتى الأولى والوحيدة, لم أتمالك نفسى وبكيت عندما رأيتهما, لا أدرى من شوقى إليهما, أم من تألمى لفراقهما, أم لبكائهما, احتضنتهما وظللنا نبكى لفترة من الوقت لا أعرف كم كانت, وكانت تلك هى بداية عودة ابنتى إلى مرة أخرى بعد كل هذه السنوات, وبعد أن هدأت وارتاحت فى غرفتها إذا بها تفاجئنا بحجم المأساة التى كانت تعيشها طوال هذا الوقت, فقد تغير زوجها معها سريعا بعد الزواج, بعد أن اكتشف أننا قاطعناها وأننا لن نساعده أو نساعدها بأى شكل من الأشكال, فبدأ بمعايرتها بأنها لا تساوى شيئا, لأنها لو كانت تساوى ما كان أهلها تخلوا عنها, وأصبح يطلب منها خدمة أمه والتنظيف والطبخ وغيره لا على أساس أنها ربة البيت, لكن من باب أن تفعل شيئا وأن يصبح لها أى نفع بدلا من أن (تقف عليه بخسارة), لم يكن يسمح لها ولا لابنتها بأى نوع من أنواع الرفاهية سواء فى المأكل أو الملبس, أو حتى الخروج للتنزه سيرا على الأقدام, ورده الجاهز دائما هو (منين؟), فهو لم يكن يعتقد أن يرمى أهلها حملها ومسئوليتها هى وابنتها عليه وحده, مع علمهم بظروفه وبحاله, كثير من الكلام والإهانات والتعليقات المسمومة التى تحملتها ابنتى وهى صامتة, مضطرة لأن تقبل بدلا من أن تعود إلينا لتكشف خيبة الأمل التى تعيش فيها.
حتى وصل الأمر إلى أنه أصبح يفرغ غضبه على ابنته, فقد كان يسبها وينهرها دائما, ويعاير أمها ليل نهار أنها لم تستطع حتى أن تنجب له الولد الذى قد يسانده ويعينه فى الحياة, حتى أصبح يضرب ابنته باستمرار وبالحزام, وهى لا زالت طفلة فى الرابعة من عمرها لا تفهم شيئا, بحجة أنه تربى بهذه الطريقة, وأنه (بيكسر للبنت ضلع فيطلع لها 24) كما يقول المثل المتخلف, حتى أصبحت البنت تخاف أباها وتكرهه, ووصل الأمر بها إلى أنها سألت أمها فى يوم من الأيام بمنتهى البراءة (هو مش ممكن نغير بابا ده يا ماما؟, أنا عايزة بابا تانى, أو مش عايزة خالص, ممكن نعيش أنا وإنتى لوحدنا).. تخيلى يا دكتورة!.
توسلت لى ابنتى ألا أتركها له هذه المرة, وأن أفعل أى شىء حتى أخلصها من العيش معه, فقد أصبح شخصا آخر تماما غير الذى عرفته وأحبته طوال سنوات الجامعة, أصبح إنسانا مخيفا, لا يعرف معنى اللين واللطف إلا إذا كان يريد معاشرتها, هكذا قالت لأمها, كما قالت لها أن الأمر كان يسوء مع الأيام وبعد كل مرة يفشل فيها فى الحصول على فرصة عمل أو سفر إلى الخارج كما كان يحلم ويخطط, ولكنها نبهتنى أن الأمر لن يكون سهلا, فهى متأكدة أنه سيتصرف معها ومعنا بمنتهى القسوة والعنف والرغبة فى الانتقام, ولن يطلقها أبدا بالمعروف, فهو يكرهنا ويرى أننا خذلناه, بل هدمنا حياته عندما لم نساعده فى تنفيذ خططه لمستقبله, لهذا فإن الأمر سيكون أشبه بصراع بكل المعانى, ولن يكون هناك أى مجال للأخلاق أو المعروف أو أى من تلك السمات المحترمة للبشر.
والآن يا دكتورة أنا أشعر بتأنيب ضمير فظيع نحو ابنتى, وأشعر بأنى كنت سببا فيما أصبحت عليه, تارة لأنى سمحت لها بأن تضغط على ووافقت على هذا الزواج, وتارة لأنى تركتها له تماما، وكأنها يتيمة يفعل بها ما يشاء, أشعر وكأنى أجبرت لأن أكون مذنبا فى حقها, أريد أن أعرف فى أيهما أنا أخطأت؟.. أم أنى أخطأت فى الحالتين؟.. وكيف يجب على أن أتصرف الآن؟, كيف أستطيع أن أضمد جراح هذه الفتاة الشابة التى لم يتجاوز عمرها 27 عاما بعد؟, وكيف أستطيع أن أقلل خسائرها فى الحياة؟.. كيف؟.
وإليك أقول: سيدى هون على نفسك, فهذا قدر ابنتك الذى لم تكن لتستطيع منعه مهما حاولت, فهذه هى الحقيقة التى يصعب على الأهل تصديقها دائما, أنه مهما بلغ حبهم ورعايتهم لأولادهم, فإنهم لن يستطيعوا منع أولادهم من السير إلى أقدارهم المؤلمة، الله وحده هو القادر على ذلك, ولسنا نحن البشر, مهما كان شعورنا بالحب والمسئولية تجاههم.
أنت قيمت الشاب بخبرتك فى الحياة, واستطعت أن تعرف ما ستئول إليه الأمور منذ البداية, ولكنك لم تكن لتستطيع أن تنقل خبرتك ولا نظرتك هذه لابنتك, التى قيمته بمشاعرها وبعواطفها وبالكلمات الحلوة التى كان يسمعها إياها, فأنت كنت تشعر بحجم الخطر الذى هى مقبلة عليه, بينما هى كانت تشعر بأنك تحرمها من الحب والسعادة والهناء لبقية حياتها, هذا عمرها وتفكيرها, وهذه خبرتها ومعلوماتها عن الحياة, ولم يكن بوسعك ولا بوسع والدتها أن تقوموا بعمل عملية نقل مخ لها, بحيث تفكر بطريقتكم وترى ما ترونه, مهما فعلتم, لهذا فأول شىء تفعله لتتعامل مع هذا الموقف هو قبول ما حدث, فلم يكن هناك من طريقة يمكنك استخدامها لمنع القدر.
كذلك لا تلم نفسك على أنك لم تساعد ابنتك ماديا فى هذه الفترة, فلا تعتقد أن عدم مساعدتك لها هو السبب وراء سوء معاملة زوجها لها, أبدا, كل ما حدث هو أن عدم مساعدتك لها أسرع بظهور معدنه الحقيقى والذى كان يخفى على ابنتك, فهو ربما كان يراها فرصة, أو وسيلة, أو دفعة لحياته إلى الأمام, إلى حيث كان يريد ويرى نفسه, ولكن ذلك لم يحدث, وبالتالى ظهر الوجه الآخر, فلم يعد هناك داع للتجمل والتلطف والكلمات الرقيقة العذبة, فقد اكتشف أنها لم تجد نفعا, بل إنها ألقت على كاهله مزيدا من العبء بتحمله نفقة زوجة وطفلة, وهو من كان يبحث لنفسه عن معيل أو على مساعد على الأقل.
زوج ابنتك غير أصيل, وغير أمين, وليس لهذا علاقة بفقره أو ضعف إمكانياته, فقد كان يمكنه أن يحسن معاشرة ابنتك حتى وهو محدود الدخل, وكانت ستتحمله وترضى منه بالقليل طالما كان يشعرها ببعض من اهتمامه القديم, ولكنه ليس كذلك, وسواء كنت ساعدته أو لا لم يكن ليتحسن حاله, بل ربما كان طالبك بالمزيد, وربما كان عاملك كما كان يراك أنت وابنتك، (كنز على بابا) الذى هبط عليه من السماء.
كل ما أخذه عليك، وسامحنى، أنك قاطعت ابنتك كل هذه المدة, وأنك لم تترك لها بابا تعود إليكم منه, مهما كان خطؤها وسوء تقديرها, لكنها ابنتك فى النهاية, وكان يجب أن تعرف أنك سندها الأول والأخير فى الحياة, حتى بعد أن تزوجت وتركت بيتك, فلماذا حرمتها من أبوتك وأنت على قيد الحياة؟, قد أتفهم رفضك لمساعدتها ماديا, أو عدم قبولك للتعامل مع زوجها بشكل طبيعى, لكنى لا أتخيل كيف استطعت ألا تراها وترى ابنتها كل هذه السنوات؟, لماذا تركتها تعانى وحدها فى صمت، وكأنها (مقطوعة من شجرة) كل هذا الوقت؟.. أنا لا أؤنبك -معاذ الله- فحضرتك فى مقام والدى, ولك كل التقدير, لكن حضرتك من طلبت منى أن أخبرك إذا كنت أخطأت أم لا, وكان لزاما على أن أخبرك بما فى ضميرى, على حسب فهمى المتواضع.
أيا كان ما حدث فهذه ليست قضيتنا, المهم الآن هو أن تقف بجانب ابنتك بكل قوتك, وأن تتحمل معها كل ما يمكن أن يحدث حتى تعود إليك, وإلى أهلها وإلى بيتكم, يجب عليك سيدى أن تبذل كل ما فى وسعك لتعيد إليها ولابنتها الشعور بالأمان وبالسند وبالظهر, أعرف كم هذا قاس وشاق, وأعرف أنه لم يكن لك ذنب فى هذا الوضع الذى اختارته ابنتك, لكنه القدر الذى لا مفر منه, وربما هو أخف من قدر آخر, فقد كان من الممكن أن تخسر ابنتك فعلا إلى الأبد إذا لم يكن قد ألهمها الله بالعودة واللجوء إليكم بعد كل هذه السنوات.
للتواصل مع د. هبة وافتح قلبك:
h.yasien@youm7.com
د. هبة يس
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد
د:هبه
عدد الردود 0
بواسطة:
احمد
و بالنسبه لصاحب المشكله
عدد الردود 0
بواسطة:
صوت الحق
عليك جزء من المسئولية