"لا أحب هذه المدينة" لعمر حاذق: بورتريهات الفقراء أكثر صدقًا

الثلاثاء، 08 أبريل 2014 05:30 م
"لا أحب هذه المدينة" لعمر حاذق: بورتريهات الفقراء أكثر صدقًا غلاف الرواية
كتب أحمد إبراهيم الشريف

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء


صدرت رواية "لا أحب هذه المدينة" بينما صاحبها الشاعر عمر حاذق فى السجن يقضى عامين من عمره هناك، فقط لأنه فعل ما يؤمن به وقال ما يود قوله.. لذا هى أكثر من مجرد رواية، إنها وعى ورؤية وقراءة للحاضر حتى وإن ارتدى ثوب الماضى وتشكل فى شخصيات تاريخية.

"لا أحب هذه المدينة".. هى رحلة فاشلة إلا قليلا، وقصة حب خائبة إلا جرحا، وأمٌّ غارقة إلا حلما، وأختٌ ضائعة إلا أملا.. ووطن محتل تماما بالغرباء والمتشبهين بهم.. هذا ما جناه "حورس" من رحلته التى امتدت من الفيوم إلى الإسكندرية ذهابا وإيابا، حيث كانت عيناه الواسعتان ترقبان الدنيا المحيطة وتتعلمان الألوان المتناثرة التى بثتها الطبيعة فى كل مكان.

حورس (البطل) وأخوه "حمار" اسمه حورس أيضا.. جاءا للدنيا معا وارتبط نموهما معا وانتهيا معا.. وقررا أن يتوجها إلى مدينة الإسكندرية كي يريا العالم المختلف.. كانا يعتبران نفسيهما فى رحلة مقدسة كى يتعلم "حورس" رسم البورتريه الذى يحمل معنى وجوديا مهما؛ فمن دونه ولو لم يرفق مع الجثة المستقرة فى قبرها فسوف تتوه الروح وتضل الوصول إلى صاحبها.. فى رحلتهما هذه لمدينة الفن والتعلم (مركز العالم القديم) لم يلقيا سوى الشر كامنا فى النفوس والأمكنة.. فالمدينة التى أحباها "الإسكندرية" كرهتهما ولفظتهما بعيدا.

نحن الآن فى القرن الثانى الميلادى فى إثر ثورة فاشلة قام بها الفقراء والفلاحون ضد الرومان فى كل ربوع مصر، وكان الصبى الصغير "حورس" من مخلفات هذه الثورة الفاشلة، لأن أباه مات فى أحداثها ولم يره ولم يرسم له أحد "بورتريها" لذا ظلت روحه ضائعة لا تعرف لها مستقرا.. ومثَّل ذلك هاجسًا للطفل الموهوب بالرسم من أن تموت أمه أيضا بدون بورتريه يحميها فى سكة الحياة الثانية.. كما فكر فى أن يرسم وجوه كثير من الفقراء الذين التقاهم فى رحلته.

وفى القرن الثانى الميلادى – أيضا – كانت المسيحية تبث نورها على استحياء بين الفقراء والمضطهدين الذين يتحولون قريبا لشهداء، بسبب الاضطهاد الدينى الذى استشرى فى تلك الآونة، اعتنق حورس حب عيسى ووجده بديلا عن القسوة التى قابلته بعيدا عن أمه.. فـ"حورس" المحب دائما لأمه ولحماره/أخيه و لـ"ديونيسيا" بملامحها الخليط بين الفلاحات المصريات وبنات السادة الرومان وللمدينة قاسية القلب ولرع وللمسيح بنشاطه وبسذاجته وإخلاصه.. فـ"حورس" تيمة منتشرة فى ربوع الرواية، كلما ضاق القارئ بقسوة العالم الخارجي أطل "هو" بعينيه الواسعتين فتسرى ابتسامة خفيفة بين سطور الكتابة.

عنوان الرواية "لا أحب هذه المدينة" يحمل قوة الفعل فى الضمير "أنا" مع أن حورس فى الرواية هو الأضعف فى هذه المدينة التى لا قلب لها، ولكن "حورس" أو عمر حاذق أو هما معا حاولا أن يخفيا الحقيقة وأن يفرضا نفسيهما على العلاقة بالمدينة بدلا من أن يقول: "لم تحبنى هذه المدينة" قررا أن يرفضاها حتى لو على سبيل اللغة.

ومما يلفت النظر أسماء الشخصيات "حورس" الابن و"إيزيس" الأم، مما يجعل ما يحدث هو إعادة صياغة لحكاية البداية دائما، حورس وإيزيس، حيث البدايات المتجددة دائما، الولد الذى خرج فى رحلة كى يبحث عن ذاته، وكذلك المسيح الذى خرج وأمه من قبل خائفا فى رحلة مشابهة، وعلى هذا يريد أن يقول إن البدايات واحدة سواء فى القرن الثانى الميلادى أو الأول الميلادى أو حتى السنة الأولى للإنسان.

والرواية تتحرك مع "حورس" خطوة خطوة إلى أن يصبح شهيدا مرورا بقدرته على رسم البورتريه، وتحمّله الألم فى سبيل الرسالة، حتى أننا على بعدنا الزمانى نتمنى أن يرسم لنا بورتريها كى تستقر أرواحنا الهائمة.. كما أن الرواية تقدم تفسيرا فنيا لفكرة الأيقونات المسيحية الأولى ولرحلة العائلة المقدسة.

فى رسالة لعمر حاذق من سجنه تعليقا على الرواية، تمت قراءتها فى حفل توقيع الرواية بدار التنوير قال إنه: "لم يحب ألوان الغلاف".. لكن فى الحقيقة الغلاف معبر جدا عن أحداث الرواية وعن فكرة رسم البورتريه وأهميته، فهذه الفتاة التى هى "ديونيسيا" لم تفقد زهوتها ونضارتها بملامحها المصرية الرومانية، وهذا الإطار الأسود المحيط بالغلاف هو الموت الذى يحيط بالصورة ويضيف إليها.

الرحلة التى قطعها "حورس" كانت لها وجوه متعددة ومستويات متنوعة، فهى من الفيوم إلى الإسكندرية، وأخرى من الغابة إلى المستوقد كل صباح، وأخرى فى شوارع وحوارى الإسكندرية كى يرسم الوجوه المعلقة بالموت.

ورواية "لا أحب هذه المدينة" بسياقها التاريخى الرمزى، وبكم الحزن المنتشر بين أرجائها، وبلغتها الشعرية وبأحلامها المتعددة التى كانت تمثل نبوءات لما سيحدث، وحورس أدوات رسمه وبألوانه الأساسية المفعمة بالحب الذى لم تكن لديه مشكلة فى اعتناق كل ما يدعو إلى طهارة القلب.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة