حوالى 34 نجما من نجوم الدرجة الثالثة نقدمهم للقراء على مدى ثلاث حلقات ليتعرف عليهم الناس بعد الرحيل.. ربما أشهر هؤلاء كان الثالوث الأشهر والقاسم المشترك فى أكثر من 260 فيلما سينمائيا هم الأخوان عبدالمنعم وحسين إسماعيل، وعبدالغنى النجدى.
عبدالمنعم إسماعيل:
اشتهر عبدالمنعم بدور المعلم أو البلطجى فى الأفلام العربية، ومن أهم أدواره التى لا تنسى، دور التاجر أو المعلم الشرير الذى يريد الزواج بالبطلة رغما عنها، مثل طعمة التى جسدت دورها هند رستم فى فيلم إسماعيل يس فى مستشفى المجانين، بالإضافة للعديد من الأدوار المتميزة حنفى فى فيلم لهاليبو، فيروز هانم، إسماعيل يس يقابل ريا وسكينة، خان الخليلى.
ولد فى 3 نوفمبر 1907 وتوفى فى 13 أكتوبر عام 1970.
شارك عبدالمنعم إسماعيل فى كثير من الأفلام، حيث إنه أدى أكثر من 225 عملاً ما بين سينمائى وإذاعى، ومن أعماله قنديل أم هاشم سنة 1968، والزوج العازب سنة 1966، وخان الخليلى سنة 1966، ومسلسل إذاعى بعنوان الطعام لكل فم سنة 1964، وإسماعيل يس فى مستشفى المجانين سنة 1958.
بدأ حياته الفنية ككومبارس فى عدة أفلام مثل: «انتصار الشباب» عام 1941، «المتهمة» عام 1942، ثم قدم العديد من الأدوار الصغيرة التى غالبًا ما تكون «بواب، قهوجى، عسكرى، شاويش، فراش، معلم، ابن البلد» وعلى الرغم من صغر تلك الأدوار داخل الفيلم فإنه كان يؤديها بشكل متقن يجذب إليه المشاهد، ويعد أحد الممثلين الذين يمكنهم لعب أدوار الشر وإضفاء الطابع الكوميدى.
حسين إسماعيل:
واحد من أشهر من قاموا بأداء الأدوار الثانوية فى السينما المصرية تخصص فى أداء شخصيات أصحاب الحرف مثل الجزار والحلاق والبواب، اشتهر أكثر بأداء دور الساعى، لاسيما فى فيلم مراتى مدير عام مع الفنانة الكبيرة شادية والراحل صلاح ذو الفقار.
من أدواره الشهيرة أيضا مع الفنان رشدى أباظة فى فيلم حواء على الطريق، حيث جسد دور «زنفل»، وغيره من الأدوار.
ولد حسين إسماعيل فى 29 أكتوبر عام 1922 وهو شقيق الممثل عبدالمنعم إسماعيل الذى نافسه على أداء نفس الشخصيات، وقد توفى فى 25 يوليو عام 1974.

عبدالغنى النجدى:
هو الفنان الذى اشتهر بأداء دور البواب والخادم والعسكرى والقروى والصعيدى خفيف الدم، تميز بتلقائيته الشديدة وأدائه البسيط لجميع أدواره، مثل دور الخادم الذى يحمل صينية الديك الرومى فى «بين السماء والأرض» وشخصية عوكل فى فيلم الفانوس السحرى، بالإضافة لأدواره المتميزة مع إسماعيل يس فى الأفلام مثل إسماعيل يس فى الأسطول، إسماعيل يس فى البوليس، العتبة الخضراء، لوكاندة المفاجآت، عفريتة إسماعيل يس.
ما لا يعرفه الكثيرون أن النجدى كتب السيناريو والحوار للعديد من الأفلام أشهرها «إجازة بالعافية»، كما كان يؤلف النكات ويبيعها لكبار نجوم الكوميديا والمونولوجات أمثال إسماعيل يس، وشكوكو، وكان يبيعها بجنيه للنكتة الواحدة، وبعد مشوار طويل مع الفن تعدى الـ100 فيلم توفى 20 مارس عام1980 عن عمر يناهز 65 عاما، ومازالت أدواره ومشاهده البسيطة علامة فى تاريخ السينما.
عبدالغنى النجدى ولد فى 6 ديسمبر 1915 فى قرية المشايعة التابعة لأحد مراكز محافظة أسيوط عام 1915، بدأ العمل فى السينما من خلال فيلم «شارع محمد على» فى عام 1944، وعُرف منذ ذلك الوقت بالعديد من الأدوار الثانوية فى السينما.
حسن أتلة
ولد فى عام1937 عرف ببدانته، اشتهر بدور غزال فى فيلم حماتى ملاك، صاحب العبارة الشهيرة «يا معنمى».. «يوووه ده أنت نينة أوى». وهو المجنون صاحب جملة «لامؤاخذة يا بنى أصل أنا عندى شعرة ساعة تروح وساعة تيجى» فى فيلم إسماعيل يس فى مستشفى المجانين، ورغم أن أدواره كلها كانت عبارة عن مشاهد قليلة فى الأفلام، فإنه بخفة دمه وجمله المميزة أصبح موجوداً فى قلوب المشاهدين.
كانت بداية حسن أتلة فى الإذاعة من خلال فرقة ساعة لقلبك، ثم بدأ عمله فى السينما، حيث استغل بدانته فى القيام بالأدوار الكوميدية، ومن أشهر الأفلام التى قدمها: العتبة الخضراء، لوكاندة المفاجآت، فيروز هانم، غروب وشروق، وقدم حوالى 50 فيلما حتى رحل فى صمت وهدوء عام 1972.
محسن حسنين:
ولد فى مدينة الإسكندرية فى عام 1916، انتقل للعيش فى مدينة القاهرة وهو لا يزال فى التاسعة عشرة من عمره سعيًا وراء حلمه فى أن يكون ممثلًا، وشارك منذ مطلع الخمسينيات فى عشرات الأفلام التى قدم فيها أدوارًا صغيرة، وكان أغلبها فى دور رجل العصابات، منها: ريا وسكينة، كأس العذاب، جعلونى مجرمًا، سمارة، الفتوة، توفى فى عام 1978 عن عمر يناهز 62 عامًا.. دخل محسن حسنين المجال الفنى عن طريق الفنان عبدالمنعم إسماعيل.
ولد فى 15 فبراير 1916 بالإسكندرية، وتوفى فى 19 سبتمبر 1978.
شارك فى 180 عملا سينمائيا ومسرحيا، مثل مسرحية الدلوعة عام 69، وفيلمى الخروج من الجنة، وسيد درويش، ومسلسل العسل المر.
عباس الدالى:
«عباس الدالى» ممثل مصرى ولد فى عام 1908، عمل فى السينما المصرية فى أدوار مساعدة منذ نهاية الثلاثينيات وحتى بداية السبعينيات وكان دائما يؤدى أدوار الغفير، البواب، الفلاح، المأذون، العسكرى، الطبيب، هو الفلاح مبارك فى فيلم «إجازة نص السنة» عام 1962 وهو الفراش المتلاعب بساعة الحائط بالمدرسة فى فيلم «المرأة» عام 1949 وهو مدرس الحساب فى فيلم «سلفنى 3 جنيه» عام 1939، وهو بائع البسبوسة فى فيلم الأيدى الناعمة، وهو خال إمام- شكرى سرحان- فى شباب امرأة.
لطفى الحكيم
ممثل أدى أدوارا صغيرة وعمل فى العديد من المسرحيات، خاصة فى فرقة رمسيس، ولمن لا يتذكره فهو الغزولى فى فيلم الفتوة، والساكن الجديد فى فيلم اللص والكلاب، ولد فى 3 سبتمبر 1901وتوفى فى 11 أغسطس 1982، وشارك فى التمثيل فى 95 عملاً منها أفلام لو كنت رجلاً 1964والمجانين فى نعيم 1963، واللص والكلاب 1962، والنصاب 1961، وإسماعيل يس فى السجن1961، ونهاية الطريق 1960.
> العدد القادم: حكاية أجمل قبيح فى السينما المصرية مع محمد عبدالوهاب وأنور وجدى وليلى مراد
◄محمود مرسى.. الموهبة الفذة فى تاريخ فن التمثيل..استقال من الإذاعة البريطانية عام 1956 احتجاجاً على العدوان الثلاثى
من منا لا يحب محمود مرسى؟ ومن منا لا يرتعد من فرط الرعب إذا سمع صوته وهو يصرخ فى «شىء من الخوف»؟ ومن منا لا تذوب مشاعره من همس الحنان حين يلمحه ناصحًا أقرباءه ومعارفه برقة بالغة فى «أبو العلا البشرى»؟
فى مقاله «الأستاذ» يقول الناقد الكبير كمال رمزى فى كتابه «نجوم السينما العربية.. الجوهر والأقنعة»، واصفا محمود مرسى: «المفروض أن يكون عنوان هذا المقال «الغابة»، ذلك أن محمود مرسى بغموضه ورهبته.. وسحره.. بكثافته واستقلاله وطابعه الخاص يذكرك بالغابة، فهو عالم كامل، مبهم ومثير، وقد يبدو ساكنا من الخارج، لكن ما إن تتوغل فى أحراشه حتى تجد أشكالا وألوانا من الأشجار والكائنات، بعضها مسالم هادئ أليف.. وطيب ولطيف، وبعضها الآخر عدوانى، وحشى الطباع.. بالغ الشراسة.. مفترس.. يثير الهلع والرعب فى النفس».
إن هذه الفقرة تعد تلخيصا بارعًا لفناننا المتفرد، ولا تنس أن كمال رمزى تمتع بالجلوس فى مقاعد الطلاب، حين كان محمود مرسى يلقى عليهم دروسه فى أكاديمية الفنون فى ستينيات القرن الماضى.
المثقف الاستثنائى
ولد محمود مرسى فى 7 يونيو 1923 بالإسكندرية، والتحق بكلية الآداب قسم الفلسفة بجامعتها، ويبدو أن الصبى والشاب محمود مرسى تأثر كثيرًا بالمناخ المنفتح الذى كانت تتسربل به عروس البحر الأبيض المتوسط فى النصف الأول من القرن العشرين، فعشق المسرح والسينما، وأتقن اللغتين الإنجليزية والفرنسية إتقانا، وأذكر أنه قال فى حوار نادر أجراه معه كمال رمزى ونشرته فى «دبى الثقافية» حين كنت أتولى موقع مدير تحريرها.. قال: إنه شاهد جورج أبيض على المسرح عام 1938 فافتتن بأدائه الآسر وحضوره الطاغى.
درس مرسى فنون الإخراج السينمائى فى معهد «الأيدك» بفرنسا، ثم غادر إلى لندن ليعمل بالإذاعة البريطانية ممثلا ومخرجًا ومعلقا فنيًا، لكنه استقال احتجاجًا حين شاركت بريطانيا فى العدوان الثلاثى ضد مصر عام 1956، وعاد إلى القاهرة ليعمل مخرجًا بالبرنامج الثانى بالإذاعة، حيث قدم مسرحيات آرثر ميللر وتينسى ويليامز وتشيكوف، ثم عمل مدرسًا للإخراج المسرحى فى معهد الفنون المسرحية، ثم التقطته السينما ليقدم أول أفلامه «أنا الهارب» لنيازى مصطفى الذى عرض للمرة الأولى فى 5 نوفمبر 1962، ليحقق نجاحًا مدهشًا، دفع المخرجين والمنتجين إلى ملاحقته ليستعينوا به فى أفلامهم، لكنه لا يختار سوى ما يتفق وقناعاته بوصفه ممثلا غير عادى يتكئ على ثقافة عريضة وفهم عميق للشخصية التى يؤديها.
عتريس العملاق
هناك مشهد فنى باذخ فى بداية فيلم «شىء من الخوف» يوضح بجلاء الأداء العبقرى للفنان الراحل العظيم محمود مرسى.. هذا المشهد يتلخص فى الآتي: الجد -عتريس- ملقى على الأرض بعد أن صادته طلقات نارية من أحد كارهيه وهو يحاول أن يفتدى حفيده عتريس.. الشاب الرقيق الذى انكفأ فوق جده المحتضر ليستمع إلى نصيحته الأخيرة. يصرخ الجد مطالبًا حفيده بالانتقام من كل أهل القرية الأوباش الذين تجرأوا على ملكوته وسطوته، آمرًا إياه بأن يقسم بذلك، هاتفا بصوت مبلل بحشرجة الموت: «احلف.. احلف يا عتريس».
هنا تنتقل الكاميرا بين ملامح الجد القاسى الذى تفصله عن الموت ثوان معدودات، وبين وجه الشاب المسالم الذى وجد نفسه فجأة مطالبًا بالقتل ثأرًا لجده! لعلك تتفق معى أنه من الصعب جدًا أن يصدق أحد ما أن الذى يجسّد الدورين -الجد والحفيد- هو شخص واحد، ذلك أن المسافة النفسية والعمرية، ومن ثم أسلوب الأداء وإيقاع الصوت وارتعاشة النبرة.. كل ذلك يختلف اختلافا جذريًا بين الشخصيتين.
فى هذا الفيلم المتفرد فى تاريخنا السينمائى الذى أخرجه حسين كمال «عرض فى 3 فبراير 1969» تتجلى عبقرية محمود مرسى وثقافته العريضة، فلم يطارد الرجل أسلوب الأداء الشائع للشرير فى أفلامنا.. ذلك الأداء الذى يتلخص فى رفع الحاجب الأيسر أو جحوظ العينين أو التواء الفم فى أثناء ممارسته البطش بالضعفاء أو التآمر على الأقوياء، لا لم يفعل ذلك، وإنما استولد لنفسه أداء مغايرًا يتفهم جيدًا طبيعة كل شخصية يتقمص حالتها، حتى لا يتورط فى فى أداء ساذج ومسطح، أو يستسلم لتقاليد بالية فى فن التمثيل رسخها ممثلون ظهروا قبله.
الليلة الأخيرة والخائنة
فى فيلم الليلة الأخيرة لكمال الشيخ، الذى عرض للمرة الأولى فى 23 ديسمبر 1963، يبرع محمود مرسى فى تجسيد شخصية الرجل المخادع الذى يزوّر فى أوراق رسمية، مستغلا حالة فقدان الذاكرة التى انتابت شقيقة زوجته، وعندما تحوم الشكوك حوله يسعى جاهدًا من خلال نظرات مرتبكة وتقطيب الحاجبين للحيلولة دون افتضاح أمره.
فى هذا الفيلم أمسك محمود مرسى الحالة النفسية للرجل الغشاش بحذق مدهش، فجاء تمثيله منضبطا ومقنعًا، لا إسراف فى المشاعر بدون داع، ولا خطابية فى الأداء أو الحركة، يعاونه بنيان جسمانى ضخم يربك كل من يحاول أن يتصدى لمكائده وألاعيبه.
أما فى فيلم «الخائنة» الذى أخرجه كمال الشيخ أيضا وعرض للمرة الأولى فى 15 نوفمبر 1965 فقد أبهر محمود مرسى جمهوره وهو يؤدى شخصية محامٍ ناجح يكتشف خيانة زوجته، لكنه عجز عن أن يعرف من هو العشيق؟ فكاد يجن حيث أصبحنا نرى نظرة الخذلان فى عينيه، وارتعاشة شفتيه نظرًا لموقفه المهين.
تذكر من فضلك كيف توترت انفعالاته وتصاعدت تدريجيا وهو يخطط لمحاولة اكتشاف عشيق زوجته الغامض، وكيف انفجر كمجنون فى وجه أصدقائه المشكوك فى سلوكهم، مستعينا بحركة جسد مترددة.. تتقدم.. وتتراجع.. تهم.. وتتخاذل فى إيقاع بالغ الروعة والسحر يرتقى بفنون التمثيل إلى ذرى غير مسبوقة.
ليل وقضبان
عندى، يظل دوره فى فيلم «ليل وقضبان» مثالا ناصعًا للممثل المثقف الذى يتكئ على معارف جمة، تعاونه على اصطياد الحالة النفسية والوجدانية لمأمور سجن غليظ القلب، محروم من نعمة الرحمة.. لا يتردد لحظة فى التخلص من المساجين المشاغبين.. وفجأة يكتشف أن زوجته -سميرة أحمد- تخونه مع أحد نزلاء السجن -محمود ياسين- فتتفجر طاقاته التمثيلية إلى أقصى حدودها، ونراه هدفا لمشاعر شتى تتلاعب فى عينيه ووجنتيه وشفتيه، خاصة أن من اكتشف الخيانة مرؤوسه الصول توفيق الدقن، الأمر الذى يعنى أن المأمور الجبار الذى ترتعد له جدران السجن مجرد رجل غافل لا يعرف كيف يحافظ على شرفه بالمعنى الشرقى فى نظر الصول!
من فضلك تأمل اضطرابه وهو جالس فى مكتبه ينتظر اتصال زوجته طالبة العشيق/ الشاب الذى يصلح لها الكهرباء، وكيف اعتراه الخزى حين سمع توفيق الدقن يرد عليها، مؤكدًا أنه سيرسله حالا! لقد صار فى تلك اللحظة نهبا لكومة من المشاعر المتناقضة والصاخبة، وقد تجلى كل ذلك فى عينيه وانحناءة رأسه بصورة تؤكد أننا أمام ممثل خارق.
المتعة الصافية
أنت تعلم أن إبداعات محمود مرسى لم تقتصر على السينما فقط، بل له فى الدراما التليفزيونية نصيب عامر، فمن ينسى مسلسل «العملاق» الذى جسد فيه شخصية العقاد، ومسلسلات «أبوالعلا البشرى/ عصفور النار/ سفر الأحلام/ بين القصرين/ قصر الشوق/ لما التعلب فات/ بنات أفكارى» وغيرها.. وكلها مسلسلات أتاحت لمحمود مرسى مساحات أوسع ليفجر طاقاته التمثيلية لأبعد مدى ما جعله يستحق أن يوضع ضمن قائمة أفضل ممثلين عرب على مر التاريخ، إن لم يكن أفضلهم من وجهة نظرى.. وهم: زكى رستم وحسين رياض ومحمود المليجى وصلاح منصور
.
بالنسبة لى لا يوجد شىء يشبه المتعة من متابعة أداء محمود مرسى إلا النشوة التى تعترى المرء عند سماع سيدة الغناء العربى أم كلثوم وهى تشدو بإحدى أغنياتها التى ترنمت بها فى الفترة من 1940 حتى عام 1960.
أذكر أننى كتبت مرة فى مجلة الصدى حين كان يعرض له مسلسل «بنات أفكارى» مطالبًا جميع الممثلين أن يتعلموا منه، من أداء هذا الفنان الفذ، ويبدو أننى سأظل أطالب كل من يسعى لاحتراف فن التمثيل أن يتعلم من الأستاذ.. محمود مرسى.
حقا.. إنه نعم الأستاذ!
◄يحيى الطاهر عبدالله.. صديق المغفلين والمندهشين والبلهاء..ابنته أسماء تروى تفاصيل الحادث المؤلم الذى أودى بحياته وهم ذاهبون فى رحلة إلى الواحات

بعد أن كلف الكاتب الصحفى الراحل موسى صبرى، رئيس مجلس إدارة مؤسسة أخبار اليوم فى عهد السادات، الناقدة السينمائية «حسن شاه صالح الهاكع»، بإصدار صفحة «أخبار الأدب»، صباح كل أربعاء بجريدة «الأخبار»، هذه الصفحة التى بدأت فيها مشوارى مع الصحافة الأدبية، فوجئنا ذات يوم بباب مكتبها يفتح ليدخل منه يحيى الطاهر عبدالله، ويقدم لها ورقة واحدة كتب عليها أقصوصته «أنا وهى وزهور العالم»، وقد بدا لى أنها لم تكن تعرفه على الإطلاق، ولم تقرأ له أى شىء قبل ذلك اليوم، لكنها بمجرد انتهائها من قراءة آخر سطر، قررت الدفع بها إلى المطبعة، ليطالع قارئ «الأخبار» اسم يحيى الطاهر عبدالله لأول مرة.
أخذت أتتبعه من خلال صديقنا المشترك يوسف أبو رية، الذى زاملنى فترة وجيزة قبل أن يهجر العمل الصحفى إلى الأبد.
شارع واحد يفصل بين بيتى والبيت الذى تعيش فيه «أسماء» ابنة يحيى الطاهر عبدالله مع أمها، بالاختيار، «عطيات الأبنودى»، هذا البيت الذى يشرف على الحديقة الدولية بمدينة نصر.
وفى الموعد الذى حددته لى لتعيرنى مجموعة من صور والدها النادرة، انفتح الباب ودخلت لتستقبلنى مجموعة عجيبة من القطط التى جعلتنى أستحضر، على الفور، عوالم والدها المسحورة، التى أحياها فى قصصه.
حديثى مع «أسماء» كشف عن أن لحظة موت أبيها حفرت فى وجدانها حفر النقوش فى مقابر الفراعنة، وهى اللحظة التى سجلتها ببراعة فى تقديمها لأعماله الكاملة الصادرة عن دار العين بتصدير رائع للصديق الدكتور جابر عصفور الذى أتصور أنه كان وراء اختيار الدكتور حسين حمودة لقصص يحيى الطاهر موضوعًا لأطروحته الماجستير.
تحكى أسماء: «كنت فى الرابعة والنصف من عمرى، أذكر انقلاب السيارة التى كانت تقودها سيدة كندية تدعى «إليزابيث»، كنت أجلس بجواره على المقعد الأمامى، وفجأة أخذ حزام الأمان وأحاطنى به وحدى.
كان فى الكرسى الخلفى الأستاذ عبدالحميد حواس، خبير الفنون الشعبية، وزوجته الدكتورة ألفت الروبى، الأستاذة بكلية الآداب، وصديقة أمريكية تدعى «سوزان»، كنا فى رحلة إلى الواحات البحرية، وكان أبى قد وافق على اصطحابى معه، رغم نصيحة المرافقين لوعورة الرحلة، لكن بكائى الشديد أرغمه على اصطحابى معه، أذكر إفاقتى على من يسحبنى من داخل السيارة، من ذراعى الشمال، وما زلت أذكر الألم الذى أحدثته هذه الشدة، وصراخى الشديد «فين بابا».
أخذونى له، كان يرقد بعيدًا عن السيارة فى الصحراء، لا يبدو عليه إلا أنه نائم، غير أن نزيف الدماء ينهمر من أنفه وفمه، وأذكر أيضا محاولة إفاقته بالمياه، ومحاولتهم تهدئتى، أذكر عربة الإسعاف، وركوبى بجوار السائق، ومستشفى أم المصريين، حيث رأيته هناك لآخر مرة».
أعطتنى «أسماء» الصور بقلق، لم تستطع إخفاءه، فقد كانت هى أهم ذكرى تربطها بأبيها، بالإضافة إلى تسجيل صوتى وحيد أهداه لها الدكتور رشدى يوسف، صديق أبورية، فى عيد ميلادها الحادى والعشرين، تعتبره أقيم هدية فى حياتها
.
وعلى صفحات «أخبار الأدب»، بعد أن أضحت جريدة أسبوعية، يسجل عبدالرحمن الأبنودى شهادة تضىء الكثير من جوانب حياة صاحب «الطوق والإسورة»:
«ذات صباح شتائى، منذ حوالى أربعين عاما أو أكثر، دلف إلى مكتبى بمحكمة قنا الشرعية شاب نحيل الجسم جدًا، ضعيف البنية، قلق النظرات كأن به مسًا، وقال فى عظمة: هل أنت عبدالرحمن الأبنودى؟ أنا يحيى الطاهر عبدالله من كرنك الأقصر، جئت للتعرف عليك أنت وأمل دنقل.
أغلقت الدوسيهات التى أمامى، ودفعت بها إلى أحد الأدراج، وقلت له: «إذن هيا بنا».
فى الطريق إلى البيت، اكتشفت أن يحيى الطاهر «عقَّادى» أكثر من عمه «الحسانى»، حين تأتى سيرة «العقاد» تستطيل سبابته لكى تصبح فى طول ذراع، وتخترق عيوننا، ويتشنج وجهه الذى لم يكن ينقصه جنون، ويخرسنا جميعًا، ويستمر يحاورنا بقوة من طرف واحد، ونحن صامتون.
فى ذلك اليوم أخذنا المسير إلى منزل «الشيخ الأبنودى»، ولم أكن أعلم أن يحيى لن يغادر هذا البيت إلا بعد ثلاث سنوات!
منذ أول يوم أصبح فردًا من أفراد العائلة، نادى أمى «يا أمه»، وتعامل مع الشيخ الأبنودى كأنه والده، واستولى منى على إخوتى.
وكان، أينما يذهب، تمشى الشجارات والمشاكل بين قدميه.
فوجئنا، أمل دنقل وأنا، بأن يحيى شديد النهم للقراءة، وأن اطلاعاته الأدبية تفوقنا بكثير، ربما لأنه أتيح له أن يقرأ فى مكتبة عمه.
ولأول مرة فى حياتنا نكتشف إنسانًا ينتمى، حقيقة، إلى الثقافة، يدافع عن آرائه حتى الموت، بحميمية وصدق مما يدل على أنه اتخذ الثقافة أهلًا، ومنهج حياة، ودارًا، وعائلة.
يتحزب تحزباً مصيريًا لما يعتقده.
كان قد استقال لفوره من عمله فى مديرية زراعة الأقصر، فقط ليبقى فى بيت الشيخ الأبنودى.
كان يعانى من مشاكل رهيبة مع زوجة أبيه التى هرب بعض أبنائها من هيمنتها الرهيبة إلى الوادى الجديد، وغيره، وترك بقية إخوته تحت سطوتها وجاء يحتمى بنا.
لم يكن أمل دنقل رقيقًا مع يحيى، وإنما كثيرًا ما كان يترجم حبه له فى شكل شجارات ومعارك أفادتنا كثيرًا، إذ كانت تكشف عن مساحات رائعة فى ثقافته، وخيالاته الجنونية الجامحة التى لا حد لحريتها، كذلك كان سلوكه «كارثيًا»، إذ كان يطبق هذا الخيال الجامح ذاته على الحياة الواقعية للبشر.
وفيما بعد، حين كتب القصة، كان يستعمل بسطاء الناس والمغفلين والمندهشين موضوعات يكتبها بصوت عالٍ، ويمارس عليهم ألاعيبه الخارقة التى هى مزيج من العبقرية والعبث الواعى والجنون».
فى عام 1962 ينزح الأبنودى إلى القاهرة، بعد أن استقال من عمله بمحكمة قنا، ويستقيل «أمل» ويتجه إلى جمرك الإسكندرية، ليفرغ الكون حول يحيى الذى استمر مقيمًا فى بيت آل الأبنودى عامًا آخر! وقد توثقت علاقته بأهل البيت، واعتبر ابنًا سابعًا للشيخ الأبنودى ولفاطمة قنديل، التى كانت تحبه، وتعطف عليه، ويخيل لها يوميًا أنه سيموت فى اليوم المقبل، فقد كان يحيى يجيد التمارض واستحلاب عواطف الآخرين، بنص شهادة الأبنودى عنه، والكلام لا يزال يجرى على لسان عبدالرحمن: «كان بارعًا فى ذلك، ومعظم ممارساته فى ذلك الشأن كانت مقصودة.
كان يحيى يكره الغباء، كما لا يكره شيئًا آخر، وكانت معاركه وصراعاته مع الأغبياء، سواء أكانوا أناسًا عاديين أو مثقفين أو مبدعين خائبين منطفئين، تقلقنى، فقد كنت أدخل معاركه إلى جواره دون أن أسأل من المخطئ، كنت أعتقد أن من حق العبقرى يحيى الطاهر أن يفعل ما يشاء بالبشر وعليهم الاحتمال.
بعد عام جاء يحيى إلى القاهرة مصطحبًا أخى كمال، الذى يصغرنى مباشرة، واضطررت إلى تغيير سكنى، المجاور لسينما أوديون، لأسكن معهما فى شقة حقيرة فى بولاق الدكرور، وهى الشقة التى كانت أشبه بالملكية العامة، وكان يتردد عليها أصدقاؤه من أمثال: طارق عبدالحكيم، وأحمد فؤاد نجم، إلى كمال الطويل.
وكانت الشقة أشبه بالمقهى الشعبى، وحولها «يحيى» إلى ما يشبه سوق الثلاثاء، فكانت الأسرة تزدحم بالمشردين والغرباء من المثقفين والمبدعين، وكان علىّ أنا أن أطعم كل هذا الجيش من الجنيهات التى أتكسبها من الأغنيات التى كنت أكتبها فى ذلك الوقت، حيث كان من النادر أن تجد أحدًا من أبناء جيلى قادرًا على الكسب».
الذكريات طوفان حول هذا المبدع، الذى شهد «إبريل» أولى صرخاته على وجه الأرض سنة 1938، كما شهد لحظة أفول نجمه فى عام 1981، فى مفارقة تليق بيحيى الطاهر عبدالله، لكن المساحة هى الأخرى لا ترحم.