فصل من رواية «إيقاع» للروائى وجدى الكومى.. هذا ما أفعله فى المهرجان

الجمعة، 05 ديسمبر 2014 11:12 ص
فصل من رواية «إيقاع» للروائى وجدى الكومى.. هذا ما أفعله فى المهرجان وجدى الكومى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
1 - المنطقة تتبدل كل يوم، وتتحول، الناس انقطعت عن التزاور، كفوا عن إرسال أطباق المهلبية وعاشورا فى المناسبات والمواسم، حل محلها رسائل إس إم إس فى الأعياد، زفرت فى حنق، وأنا أقول هذه العبارة بصوت عال.

فوجئت بأهالى بين السرايات يكتبون عبارات دينية متوعدة على لافتات أسماء الشوارع، على يافطة شارع الخضرى سلطان كتبوا عبارة: «صلى وتوب تطرح البركة فى دنياك»، وعلى يافطة شارع الوكيل كتبوا: «الحجاب عفة وطهارة»، وعلى يافطة شارع حسين جاويش، كتبوا: «النظرة سهم من إبليس»، وهكذا على كل يافطات شوارع بين السرايات، ما بين شارع السُكرى المؤدى إلى منطقة الطوبجى، إلى شارع المرور الموازى لكلية العلاج الطبيعى، تطل فوق رأسك وأمام عينيك عبارات الوعظ، الاستشياخ لم يتوقف عند منابت ذقونهم، وعظ دينى مستمر على الحيطان وعلى يفط الشوارع، تبدل حال أصحاب المكتبات الذين كانوا أصدقائى يومًا، تبدلوا أولًا بتغيير ملابسهم، هجروا القمصان والبنطلونات، حلت محلها الجلاليب البيضاء، كنت أراهم يتحولون شيئًا فشيئًا إلى اللحية والزبيبة، والهالات السوداء حول الأعين، كأنهم يهربون من دنياهم إلى كهف، أطلقوا فى البداية لحاهم، ثم هجروا ملابسنا العادية، وبدأوا يرتدون الجلاليب القصيرة.. ظهرت ألوان رمادية على ملامحهم، تضخمت أجسادهم بغتة، يقولون إن الله زادهم بسطة فى الجسم، لكن أجسامهم كانت تتضخم بحرصهم المتزايد على الأكل، ووصفات العطارة للمضاجعات الطويلة.. صارت هذه هى الرياضات التى يتبارون فيها، ويتداولون الوصفات كأنها أحجبة.. جارى عبدالله الذى كان يرجونى لتوفير مصلحة لابنه، واحد منهم، كنا نتحسس معًا أصابع الطالبات خلسة فى شبابنا، بينما نبيع لهن الملازم، ونتسابق على ملاحقتهن ومواعدتهن، وأكثر من ذلك، جمعتنا حجرات فى بيوت سرية فى أبوقتاتة كنا نتردد عليها بانتظام كل خميس، ماذا حدث لعبدالله، تبدلت أحواله فجأة بعدما عمل سائقًا فى الجزائر، عاد شيخًا وهو لم يتعد الثلاثين، حكى لى قصة تعرفه على جماعات متدينة هناك، ثم مدّنى بكتيبات عن عذاب القبر، طالبنى أن أكف عن التردد على شارع الهرم. وقتها كنت أتمنى أن أفوز بدقائق على استيدج أحد الكازينوهات، ازداد هو تشددًا، وبحث عمن يشبهه، فيما ازددت أنا إصرارًا على الغناء، وتأسيس باند.

إنهم لا يفهمون الرقص والغناء فى الدين، هذا مؤكد، يصلون فى جمود كأنهم يؤدون واجبًا ثقيلاً، يحتاجونه لتسيير أعمالهم، يصلون ليس من أجل آخرتهم، بل من أجل البيزنس، إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان، وأودع أموالك فى خزائنه من أجل فائدة أكبر من فائدة البنوك، وانتخبه إذا ترشح للانتخابات عن الدائرة.

حسنًا يا مؤمنين، نحن أيضًا نصلى، ونتمايل فى صلاتنا وتهتز أطرافنا، حتى فى الركوع والسجود، أليس هذا نوعًا من أنواع الإيفكت، هذا ما أفعله فى المهرجان، هم يركعون ويسجدون، ويتمايلون ويهتزون فى ليالى الذكر، ويكادون ينشدون الأغنية، أنا أرقص مع فتيانى فى المهرجان، رقصات أقرب للصلاة، أخشع فيها، كأننى أقبل على الله، كأننى أدخل مسجدًا، أو أتعبد فى دائرة ذكر، فتيانى طوروا الرقص، صاروا يرقصون بصحبة المطاوى، لم أكن مرحبًا فى البداية بهذا التطوير، لكننى أردت أن أترك لهم مساحة من الحرية. ستظل لى مكانتى وهيمنتى، كان من الطبيعى أن يقبل الشباب على مزيكتى ويلتحقون بجلسات الرقص والتدريب، فى الوقت الذى تآكلت فيه مساحات المتعة القديمة التى كانت تشكل أكبر لهوهم، فالشيوخ الجدد، أصحاب المكتبات، قرروا منع ترابيزات البنج بونج التى كانت منتشرة فى حارات بين السرايات، الناس عاوز منا إيه؟، هكذا كنت أغمغم لنفسى، مش هتوبوا، انتهت إلى الأبد المتعة الوحيدة التى تربينا عليها، تآكلت مع متع أخرى، منها اللعب فى الشوارع، ماتشات الكورة، مسابقات الملاكمة.

الأولاد الصغار حبسوا أرواحهم فى صالات البلاى ستيشن، والكمبيوتر، بعدما نشأنا فى الساحات الشعبية التى يتنافس فيها الرياضيون والملاكمون، انتهت للأبد فرصة أن يذهب أحدهم لبيت حسبو الذى خصص إحدى حجراته لرفع الأثقال، حسبو نفسه انضم لجماعة طلبت منه تغيير نشاطه، فافتتح مكتب عملة، كان أول مكتب عملة يتم افتتاحه فى بين السرايات، يعنى هو دا اللى كان ناقص المنطقة؟ من أين لك هذا يا حسبو؟ سأله أحد الشباب عندى، فأجاب فى غموض: الله يبارك لهم.. ولم يعقب، تهامست ستات المنطقة عن رجال أغراب يزورون حسبو، يحملون حقائب سفر، تطايرت كلمة غسيل أموال من فم أحدهم، لم أفهم، قلت لنفسى وأنا أراه يعلق لافتة أعلى المحل كتب عليها صرافة القدس: وهو بيروح القدس يغسل ويرجع؟ أنا مش فاهم الإيفكت، وهل سأترك نفسى للحيرة وأنا صانع البهجة، سألت واستفسرت، وفهمت، لكننى لم أفهم لماذا يطلق على مكتبه صرافة القدس.. مالها بين السرايات؟.

2 - المختصر المفيد.. بصوا يا شباب.. هتحبسوا نفسكوا هنا فى الأوضة بالأيام والأسابيع.. هنعمل أحسن إيفكت.. مش هنسيب روحنا تتكتف بكيفهم، اللهم إننا مش هنغنى ولا هنعمل حاجة عليها العين.

كنت أقول هذا الكلام لثلاثة شباب من المطرية، سمعتهم أول مرة فى فرح يخص أحد نواب الحزب الوطنى فى شارع المسلة، طلع الشباب على الاستيدج، وغنوا أغنية ضد الطائفية، هاج وماج الخلق، قابلتهم وقررت أشتغل معهم، وكان، لبوا دعوتى، وشرفونى فى الاستوديو، كان الولد دسوقى قد ترك القهوة، وجاء يكنس لى الأوضة، ثم وقف يتفرج على حمدى بينما يسجل حلقة على يوتيوب عن برنامج فروتى لوبس الذى نستخدمه فى ضبط إيقاعات اللوب أوالتراكات.

حمدى هو أول ولد عثرت عليه فى حكاية المهرجانات، كان يعمل على توزيع نغمات بولوفونيك على الكمبيوتر فى السنترال الواقع على الناصية، التقطته، قلت له ذات مرة: طالما أنت شاطر فى التعامل مع البرامج، أكيد تعرف برنامج «الفروتى لوبس».

نظر لى نظرة بلهاء، كأننى قلت له سأصحبك إلى المريخ، وقتها كانت دقيقة المحمول بخمسة وسبعين قرشًا، متى كان ذلك، غالبًا منذ خمس سنين، سنة 2008، المهم جاء حمدى إلى الأوضة، ثم بدأ يتعلم العمل على الفروتى لوبس، أنتجنا معًا أفضل تراكات لكن كان ينقصنا الأولاد الموهوبون، والكلمات المختلفة، والمؤدون الشطار، ما أن بدأ حمدى يتعامل على البرنامج، حتى أطلق على نفسه اسم حمدى ميكس، نجح الولد فى فك شفرات البرنامج، توصل إلى المؤثرات المختلفة التى يحويه، البيز، والضجة، والصاجات، ومؤثرات السحب والتارة والمزيكا.

جلست بجواره ذات مرة، ففوجئت به وقد بدأ يسجل حلقات دروس توزيع مهرجانات على يوتيوب، واشتهرت صفحته، كان يقول لمتابعيه على الموقع: اعملوا لى لايك وصاب صكرايب، كنت أضحك فى صمت، وأنا أراه يتألق، لكنه ظل حبيس الأوضة، لم يجد المهنة الجديدة عبئًا، فى صبر واصل تعليم الشباب ما تعلمه، فبدأ يكسب حينما تلقى مكالمات من مؤدين لتوزيع مهرجاناتهم، أشهر هذه المهرجانات التى وزعها حمدى ميكس، كانت لمجموعة من الشباب غنوا مهرجانًا شهيرًا اسمه صحوبية جت بندامة، كلماته تقول:

ياما ياما ياما.. صحوبية جت بندامة
خلولى فى قلبى علامة.. نسونى الابتسامة
شفت اصحاب أشكال وألوان.. ملأتش منهم أى أمان
أنا كنت ماشى عا الطريق.. شفت أصحاب بيضروا صديق

قال لى يومها: هذا المهرجان كتبه شاب اسمه السادات من مدينة السلام، واشتهر وبقى أشهر «بيز» تسمعه فى التكاتك والسرفيس، أظنه بيغنوه فى طابور الصباح فى المدارس اليومين دول.

جلس الشبان الثلاثة معى أنا وحمدى فى الاستوديو، أحدهم كان قبطيًا ويدعى جوجو، ظننته سبب الأغنية التى سمعتها منهم فى المطرية، قلت لهم وأنا أتحسس كلامى: إحنا ممكن ناخد كلمات المهرجان دا، ونضيف لها، أو نغنيها زى ماهيا.. كدا كدا الموضوع مشاع.. محدش هيدور علينا.. ودا أحلى إيفكت.

نظروا لى فى حيرة، قال أحدهم: إحنا مش عاوزين نعبى أسطوانات ولا كاسيت، ولا شركة إنتاج تنتج لنا، إحنا بس عاوزين نغنى، نمسك استيدج.

قلت لهم وحديثهم يبهجنى: كلنا عاوزين الإيفكت دا.. إحنا مش بتوع شهرة.. إحنا بتوع سعادة وبهجة.. بس الناس تتوب وتبطل مظهرة كدابة.

بدأنا معًا نستعد للفرح الذى سيغنى فيه الولد سعد، شعرت أننى بحاجة لفرض أسلوبى، ومزيكتى، أنا أرخص من سعد وأجود وأحسن منه، موسيقاى زلزال، وإيقاعها أشبه بمطحنة الطعمية، أما هو، فأنا أعرف ماذا سيفعل فى الحفل، سيرقص مع الرقاصة، ويحاول أن يهيّج البشر، عارفه، وسخ من يومه.

قال لى أحد الشباب الثلاثة: لا مؤاخذة يعنى يا عم خريشة.. إحنا جايين من بعيد.. وكدا كدا عندنا استوديو دى جى فى منطقتنا.. فى المطرية، وعاوزين نعمل لروحنا هناك أرضية، وبصراحة بصراحة.. إحنا حابين نغنى فيها وفى الأميرية، مش هنشرق، ولا هنغرب.. إيه اللى يجيبنا الجيزة؟

قلت له مزمجرًا: ليه بقى كده الإيفكت دا.. الجيزة هنا أصل الحضارة.. والجنينة قدامك أهيه.. عندك إيه يا بنى فى المطرية غير المسلة؟، ثم إن الفرح اللى هنغنى فيه هيحضره واد مشهور، ولو غطيتوا عليه فى الليلة، وركبتوه فوق الاستيدج، هتتعرفوا، وهتشوفوا أحلى إيفكت فى حياتكم، ولا إيه؟

تبادلوا نظرات مرتابة مترددة، فشوشرت على أفكارهم بقولى: صدقونى هنا هتعملوا أحلى إيفكت، بدل ما الناس تفتكركوا بتغنوا أغانى طائفية والبلد مش ناقصة يا ولاد، البلد ضاعت.. توبوا بقى.. توبوا واسمعوا الكلام.

كدت أسبهم بكلمتى المعتادة يا ولاد المقرّحة، لكننى أمسكت لسانى، تبادلوا النظرات الحائرة، ثم قال أحدهم وكان يسمى إيهاب تكنو: ماشى موافقين.. بس مش هنغنى المهرجان دا.. هنألف كلماتنا إحنا.. إدينا فرصتنا.

قلت محذرًا: بس مش عاوز طائفية.. مش عاوزين نهيج الدبابير.. المديرية جنبنا، اصبروا على نفسكم شوية.

3 - نجحوا الولاد..
ركبوا على سعد فوق الاستيدج، غنوا مهرجانات بديعة، زلزلت بين السرايات، لكن غمنى هذان الشخصان اللذان دخلا الفرح، كانت ملامحهما تشى بغربتهما، ملابسهما تفضح انتماءهما لطبقة ناس مرتاحة، رجل والحتة بتاعته، لم يلفت نظرى مظهرهما، ولم يكن هو ما غمنى، بل ما فعلته المرأة، بكت، انهمرت دموعها تحمل كحل عينيها فبدت كمسخ، لماذا تبكى الحتة؟ كان السؤال الذى طرحته على دسوقى، فالتفت إليهما مستغربًا، ثم تحرك نحوهما، فبادرته: بصنعة لطافة.. وأوعى تضايق الحتة أو تكلمها.

انصاع الولد لنصيحتى، وجه حديثه للرجل بعدما اقترب منهما، ووضع كفه على كتفه، وأشار له نحوى، فجاء الرجل تاركًا زوجته تتأمل مسخرة سعد مع الراقصة، ما إن اقترب منى حتى فاحت منه رائحة عطره القوية، تأملت ملامحه وملابسه بحسد، قبل أن أقول فى ابتسامة واسعة: أهلا وسهلا.. بتدوروا على حد؟

ارتبك الرجل، وقال متلعثما: لا أبدًا.. إحنا تايهين.
فواصلت بنفس الابتسامة التى تخفى خلفها إيفكت الحيرة: طب خير.. المدام مالها.. حد مزعلها؟ قال مترددًا: أنا آسف لو كنا أزعجناكم.. بس المدام ممكن تكون بس.
ولم يجد ما يقوله فساعدته: افتكرت حد عزيز؟ ولا ضايقتها مسخرة المطرب مع الرقاصة؟

قال الرجل كأنه يلتقط حبل النجاة: نعم.. هى فعلا لسه مودعة حد عزيز عليها من يومين.. يعنى مش متخيلة إن الدنيا لسه ماشية والناس بتفرح وهى حزينة. تراجعت متظاهرًا بتصديق الكذبة، غادرًا، بينما الست تودعنى بنظرة مقت وكراهية، أو هكذا فسرتها، المهم، عدت لمهرجاناتى، ونسيت الحكاية تمامًا، حتى شاهدت المرأة بعدها بشهرين، كنت قد نسيت ملامحها، لكننى تذكرتها فجأة، حينما جاءنى الولد دسوقى أسفل البيت، ووقف أمام مدخل الاستوديو، كنت أشرب الشاى مع إيهاب تكنو وحمدى ميكس، ونبتكر تراكات جديدة، هتف الولد دسوقى مناديا: يا عم أحمد.. عم أحمد.
أطللت عليه من البلكونة الضيقة المطلة على الحارة: خير ياض.
قال: الحتة دى عاوزاك يا عم أحمد.

وهو يشير إلى المرأة التى كانت تبكى دموع الكحل، كانت تقف وبحوزتها أوراق، قلت لها: اتفضلى.
هزت رأسها مرتين ثم خاطبت دسوقى بكلمة، فرفع لى الولد رأسه وقال: بتقول لك إنها مش هتقدر تطلع.. هى عاوزاك تنزل.

نزلت، خير يا ست الكل؟ قلتها حينما تقدمت نحوها، أتأمل ملامحها، الدنيا كانت برد، لكنها ترتدى ملابس خفيفة، قالت لى فى خفوت: أنت معروف هنا، فكرت أطلب مساعدتك.
قلت لها فى حماس: إنت تؤمرى.. يا سلام.. إحنا نحب نخدم بأى إيفكت.. أؤمرى.
همست: تعرف منطقة قديمة هنا كان اسمها زمان.. عزبة الوقف؟

ملت برأسى إلى الخلف، وأنا أعيد تأمل تقاطيعها، أنفها المدبب، ملامحها الجميلة، جسدها الممتلئ، صدرها البارز، ملابسها الخفيفة التى لا تتناسب مع الجو البارد، لم أتعود على تفحص الحتت لكننى أحيانًا أنسى نفسى، قلت متظاهرًا بالتفكير، وأنا أتأملها من ساسها لراسها فى طمع: الحقيقة يا ست الكل.. لو تقولى لى بس اللى وصفها لك.. قال لك فين، يمكن تكون فى أبوقتاتة؟

قالت فى تردد وهى تتحسس أوراق ملفوفة فى جعبتها، كأنها تستمد منها الثقة فى نفسها: «قال لى هنا.. فى بين السرايات.. بص فى الحقيقة يمكن أنت ما تعرفهاش، لأنك مش كبير قوى، المنطقة اللى بدور عليها قديمة جدًا، يمكن لو فيه حد أقدم منك فى المنطقة، يعرفها أكتر منك».

كففت عن تأملها، وحدقت فقط فى عينيها متعجبًا، قلت وأنا أعقد ساعدىّ على صدرى مستخفًا بها: العبدلله فى المنطقة من سنين حضرتك، ما سمعتش قبل كده عن «عزبة الوقف» دى يا ست الكل.. أكيد اللى وصف لك.. مش عايش فى بين السرايات.

نظرت لى حانقة، شعرت أن نظرتها تحمل إيفكت مش ولابد، رمقتها بنظرة مستنكرة، فهزت رأسها مرتين، شعرت أنهما علامة على غيظها، قالت لى: أنت اللى مش عايش هنا فى بين السرايات أكيد.. دى خرايط علمية.

وهى تفرد الأوراق فى وجهى، لكننى لم أنظر للأوراق، كنت أضحك على الكلمة التى قالتها، قلت مستهزئًا: مش عايش فى بين السرايات، لو أنا مش عايش فى بين السرايات، أؤمال مين اللى عايش يا حتة؟ بقولك إيه حضرتك.. مش حلو الإيفكت دا منك، أنا مش فاضى لك.. أنا عندى مهرجانات.
ثم استدرت لأعود للاستوديو، فقذفت ظهرى بعبارة: أنا عاوزه اشترى عزبة الوقف.
توقفت والتفت نحوها، وأنا أقول: ودى فين وتطلع بكام ومين اللى هيبيع لك؟
قالت: معرفش.. قالوا لى إنك هتساعدنى.
قلت وأنا أعطيها ظهرى وأبتعد عنها: شوفى سمسار.
4 - ثم إنها بدأت تأتى كل يوم تقريبًا وتلتقى بناس.

أراقبها بحذر، كانت تدخل المنطقة فى الصباح، تتجول وحدها مثل التائهة، المشعوذة، كنت أجلس يوميًا فى القهوة على ناصية شارع المرور، أنتظرها بينما تأتى ماشية من ناحية الدقى، تبدو كما لو كانت فى مهمة ما، تبحث عن شىء ضاع منها، تنبش فى حكاية ماتت، تدخل منطقة بين السرايات من مختلف مداخلها وشوارعها الضيقة، مرة من شارع المرور، وتظل تمشى فيه بطوله بلا هدف، تقطعه ذهابًا وإيابًا، حتى شعرت أننى سأسقط من التعب من ذهابها وإيابها المتواصل، كانت تتحاشى النظر إلىّ، فيما أقتحمها بنظراتى كأننى أحاول أن أحاصرها، وأجبرها على مغادرة المنطقة، بدأ تجوالها الدائم بلا هدف، وبلا سبب يضايقنى، ويضغط على أعصابى، هزمتنى هى حينما جعلتنى أترك القهوة إلى الاستوديو، كان الولد حمدى ميكس مستغرقًا فى حلقاته، وفى تجربة لوبس جديدة، وقفت فى النافذة، رأيتها تدخل شارع السكرى، وتغيب فيه، ظللت واقفًا فى فضول منتظرًا عودتها، وأنا أفكر فى سرها، وراءها حكاية، لكنها كانت قد غابت تمامًا فى شارع السكرى، شعرت بالقلق، أين عزبة الوقف التى حدثتنى عنها، وهل لها أصلا وجود؟ أم أن الحتة تتوهم خيالات؟. لأول مرة أشعر بقلة الحيلة عن معرفة شىء فى منطقتى، ثم ماذا ستفعل بشرائها العزبة المزعومة؟، حتى إذا عثرت عليها، ربما بنت فيها برجًا، أو مشروعًا استثماريًا، أو مطعمًا من مطاعم التيك أواى، أو مكتبة حديثة لتصوير الملازم وكتابة الرسائل العلمية، أم أنها تبحث عن كنز؟ معقولة! بين السرايات تحتضن أرضها كنزًا ما؟، ليه لأ قلت بصوت عال، وظلت أفكارى تعصف بى، مثل خطوات الحتة فى المنطقة، إيابًا وذهابًا، ركز فى همك ومهرجاناتك، ركز يا خريشة وحياة أبوك، كنت أهمس لنفسى، لكن الست لم تتركنا فى حالنا.

عادت بعد أسابيع، وبصحبتها رجل فى منتصف الخمسينيات، أظن أننى رأيت ملامحه من قبل، ملامحه ليست غريبة عنى، أظنه داعية، أو شيخًا، أشعر أننى لمحته مرة فى قناة دينية، أو أحدهم كان يتحدث عنه بإجلال، المهم أنهما جاءا المنطقة، ودخلا مكتب الولد حسبو، الرجل كان يحدق المنطقة بنظرة متعالية، صحت على الولد دسوقى: دسوقى، أنت ياض.

كنت أرمق مكتب حسبو فى اهتمام وترقب، جاء الولد دسوقى، قلت بصوت خافت: ولااا.. فاكر الحتة اللى جت من شهور فى فرح ابن شكرى، الحتة اللى كانت بتعيط؟

تظاهر دسوقى بالتفكير، لكن علامات الغباء كانت واضحة، بينما يهز رأسه إيجابًا ليرضينى، قلت وأنا أسلط عينى على مكتب حسبو: بص يا دسوقى.. اعمل نفسك هتودى شاى لحسبو، اعمل نفسك أى حاجة، دخان، دبان أزرق، عاوز أعرف الحتة والراجل الأليط اللى قاعدين مع حسبو بيتكلموا فى إيه.

شعر دسوقى بجسامة المهمة، شعر بثقلها فعلًا، لأنه استدار وكاد أن يتحرك، فتوقف، فصحت ضائقًا به: مالك متخشب ليه زى خيال المآتة.. دوس.. شوف لك صرفة.

هى مهمة ثقيلة فعلا، حسبو رغم تظاهره بالتقوى والورع، إلا أنه تاجر، لو لم أكن أعرف أهله جيدًا لقلت إنه ابن حرام، أو غالبًا تجارة الفلوس هى من لوثته، وسممته بالخبث والدناءة، الولد كان رياضيًا ومحترمًا، وبيته كان قبلة كل شباب المنطقة بعدما حوله لصالة جيم، رفع أثقال وسويدى، إلى أن أغلقها فجأة فى وجوه الشباب، وقال لهم: بطلناها.. هنشتغل شغل جامد، وعليه، فجأة روحه تبدلت، ارتدى البدلة بعد «الترنجات»، ربى لحية قصيرة ناعمة، ونبتت فى جبهته زبيبة صلاة داكنة، أخذ يعمق من حك جلد جبهته فى حصير المسجد، لا ريب، ليسرع فى عملية إنباتها بهذه السرعة.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة