براء الخطيب

عبد العظيم الوردانى و"النقحرة" و"النقصوة".. رحيل مترجم كبير

الأحد، 26 يناير 2014 10:13 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كما ترحل العصافير النحيفة.. رحل، ولأنى أعرف أنى لن أراه مرة أخرى فقد تملكتنى وحشة مفاجئة، إنه الغجرى المهذب الذى كان يحتمى من البرد بدفء قلبه، ومن الهجير بنسمة هى روحه العذبة التى تفيض على الجميع مودة وعذوبة، وها هو يرحل وحده: لا غنائم ملوثة بالنفاق والسمسرة كما فعل "ويفعل" غيره من بعض المثقفين الكبار، لم يترك كتبًا كثيرة تخلد اسمه بين المترجمين، ولكنه كان من أكابر المترجمين بما خلفه من نموذج للمثقف الكبير المحترم الذى يشع بروحه وثقافته على كل من اقترب منه مؤثرًا فى عشرات المثقفين الكبار والشعراء وكتاب الرواية والمترجمين، فخلف بشرًا يحملون على أكتافهم كتبًا لا حصر لها فخلف بشرًا يؤلفون كتبًا ولم يخلف كتبًا، مات أبوه صغيرًا فحمل عبء أسرته منذ صباه ووصل بهم إلى بر الإبداع وشاطئ الثقافة التى تحمل على كتفيها الالتزام بقضايا الوطن والشعب والأمة، إنه عبد العظيم الوردانى الذى عرفته منذ أكثر من خمس وثلاثين سنة، ولم أغضب منه مرة واحدة ولم أره مرة واحدة يجرح مشاعر أحد ولم أر أحدًا يعتدى على مشاعره بكلمة واحدة، والكل يستمع إليه عندما يتحدث فى وله العاشق عن علاقة العرب بالترجمة فيسهب كثيرًا، كيف كان العرب يرتحلون للتجارة صيفًا وشتاءً ويتأثرون بجيرانهم فى مختلف نواحى الحياة، فعرفوا بلاد الفرس، وانتقلت إليهم ألوان من ثقافتهم.. وانتقلت بعض الألفاظ الفارسية إلى اللغة العربية، وظهرت فى شعر كبار الشعراء، وكان "الأعشى" من أشهر من استخدموا فى شعرهم كلمات فارسية، كذلك عرف البعض جيرانهم البيزنطيين، وكان المترجمون من أمثال حنين بن إسحق وثابت بن قرة، يتقنون اللغة العربية والسريانية وكذلك‏ العلوم التى يترجمونها، وكان حنين بن إسحق قد عاش فترة فى اليونان بهدف دراسة اللغة اليونانية، وكان يترجم الجملة بجملة تطابقها فى اللغة العربية، ولا يترجم كل مفردة على حدة، كما ترجم يوحنا بن البطريق، وابن الحمصى، وغيرهما، وكذلك فإن الطريقة التى اتبعها حنين بن إسحق هى الأفضل، ومن بين الكتب التى ترجمها كتاب "الأخلاق" لـ"أرسطو"، وكتاب "الطبيعة" للمؤلف نفسه، وكان العرب فى العصر العباسى يهتمون بدقة الترجمة ولهذا ظهرت عدة ترجمات لنص واحد، فعلى سبيل المثال ترجم أبو بشر متى بن يونس كتاب "الشعر" لأرسطو ثم ترجمه مرة ثانية يحيى بن عدى فتكرار الترجمة يدل على الحرص على دقتها، كان عبد العظيم الوردانى عاشقًا لكتاب "كليلة ودمنة" الذى كتب فى الأصل باللغة السنسكريتية والذى كتبه الفيلسوف الهندى بيدبا، وقدمه هدية لملك الهند دبشليم الذى حكم الهند بعد مرور فترة من فتح الإسكندر المقدونى لها وكان أكثر إعجابًا بمترجم الكتاب وهو عبد الله بن المقفع، وكان الوردانى يؤكد دائمًا أنه لا بد للترجمان -كما يسميه الوردانى- من أن يكون بيانه فى نفس الترجمة، فى وزن علم المؤلف الأصلى وفى نفس درجة المعرفة، وينبغى أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتى يكون فيهما سواء وغاية، وكان "الوردانى" يرى أنه على الترجمان نقل المعنى وليس نقل الكلمات نقلاً حرفيًا وإلا لن نستطيع نقل الشعر أو الأمثال أو التشبيهات المجازية والاستعارية ونقل الغلاف اللغوى الذى يغلف المعنى بمعنى نقل الزمن سواء "ماضي" أو "مضارع" وإذا كنت جالسًا إلى جوار عبد العظيم فإنه سوف يهمس فى أذنك موضحًا أن "المضارع ليس زمنًا وإنما هو صيغة، أما الأزمنة فهى الماضى والحاضر والمستقبل، كما أن مدلولات الزمن والنحو تضيف للمعنى وتعززه وبالتالى كلما تعمق المترجم فى فهم الجملة كلما وجد أدلة ومفاتيح تثبت وتؤكد صحة ترجمته أو تقوده للأصح كما أنك سوف تسمع تأكيده على أهمية أن يكون الترجمان مهتمًا بنقل "أسلوب الكاتب" وتشبيهاته والصور الجمالية المستخدمة ونقلها من خلال حضارة اللغة الهدف حتى تصبح مستساغة ومفهومة فالقيام بعملية الترجمة مع مراعاة النقاط السابقة بالترتيب المذكور يجعل الترجمة فى أدق ما يمكن لذلك فسوف يؤكد عليك بصفتك مترجم مبتدئ أن الترجمة علم وفن وليست عملاً "جهجهونى" كما أنه سوف يؤكد لك أنه على أن من أعظم مشاكل الترجمة هى عجز المترجم "أيًا كان" فى توصيل المعنى الدقيق لأية مفردة فى النص الذى يريد نقله إلى لغة أخرى، فكل لغة تحمل فى طياتها العديد من المرادفات التى تختلف فى معانيها اختلافًا طفيفًا عن بعضها البعض وكل لغة لابد وأنها تنتمى إلى ثقافة معينة، وبالتالى فإن المترجم قد ينقل الكلمة إلى لغة أخرى ولكنه لن يستطيع أن ينقل ثقافة هذه الكلمة بشكل فعال بحيث ينقل تصور صاحب الكلمة الأصلية إلى اللغة المستهدفة فى الترجمة، أما "النقل الحرفي" فقد كان شيئًا ممجوجًا وسخيفًا فى عرف "الوردانى" وكان يسميه "النقحرة"، وعندما سألته كيف اخترع هذه الكلمة؟ قال إن كلمة "النقحرة" مصطلح علمى للترجمة الحرفية ولم يخترعه هو كما تصورت أنا، كنا فى آخر الليل وكنت جالسًا إلى جواره وهو يجلس خلف مقود سيارته وقد أصر على أن يوصلنى بنفسه رغم حالة الإجهاد التى كان عليها وكان مرهقًا فيما كانت السيارة تنحرف بنا ناحية اليسار مرة ومرة أخرى ناحية اليمين تبعًا للمطبات التى كنا نفاجأ بها وتأخذنا على حين غرة، فخفت أن يكون النوم قد حل عليه ويحاول الاستيقاظ بقوة بعد كل غفوة فقلت فى نفسى بأنه لا بد أن "أصحصحه" فلأتحدث معه فى موضوع يحبه ويجذب انتباهه، إذن لابد من الحديث عن الترجمة، ونويت أن يكون حديثنا عن الترجمة طريفًا يجذب انتباهه فلم يكن يجذب انتباهه أكثر من أى شيء أكثر من الأشياء الطريفة أو اللطيفة، فسألته عن اللغة التى يكتب بها الكثير من شباب "فيس بوك" حيث يكتبون الكلمة العربية بأحرف لاتينية بحيث يكتبون مثلا حرف "ح/ 7" ويكتبون حرف "خ/5" وحرف الهمزة "ء/ 3"، وهل يمكن ترجمتها؟ فالتفت "الوردانى" إلى يمينه حيث أجلس إلى جواره غير عابئ بالنظر إلى الطريق حيث تكون قيادة السيارة فى شارع الهرم خطرًا داهمًا فى مثل هذا الوقت من نهاية المساء وقرب شقشقة الفجر، وفى مثل حالتنا من الإرهاق، التفت إلى "عظمة" ونظر من تحت نظارته السميكة وهو يضحك ضحكته الهادئة العذبة ثم أدار وجهه واعتدل فى جلسته خلف المقود وراح يستشعر نسمة البرودة الخفيفة التى كانت تتسلل إلينا من النافذة المجاورة له وهو يستند بكوعه على حافتها، وبعد لحظات بدأ يغني:
والنبى يا جميل حوش عنى هواك
يا أعز حبيب دا الشـــــوق بيزيد
مين قالك غيب يا فايتنى وحيد
ليه بعدك طال.. والنبى يا جميل
ابعت مرسال.. والنبى يا جميل
والنبى يا جميل يا جميل يا جميل

ورحت أشاركه الغناء وأنا أحاول أن أتذكر من هو المطرب صاحب الأغنية وأنا فى مثل حالتى من الإرهاق، وقد فهمت أنه نسى سؤالاً عن تلك اللغة المختلطة التى يكتب بها شباب "فيس بوك"، وما أن أنهى الأغنية حتى بدأ يتكلم فى هدوء فى إجابته على سؤالى الذى كنت قد سألته له قائلاً: إن شباب "فيس بوك" لم يبتكروا هذه اللغة بل أن هذه اللغة معروفة بمصطلح "النقصوة" وهو مصطلح تم نحته من كلمتين "نقل" و"صوت" ويعنى النسخ اللفظى أى نسخ اللفظ ورسمه بنظام كتابة آخر، أى نقل الملفوظ فى اللغة بأقرب لفظ إليه فى اللغة أخرى، ويمكنك حينها أن تقول "نسخت الكلمة من الكلمة"، فأدركت أن "عظمة" قد غالب الإرهاب فى نشوة فأردت أن أشاركه بعض نشوته فبدأت أغنى الأغنية التى أداعبه دائمًا بها حيث كنت أغير كلمة "وردة" بكلمة "ورداني" لتصبح الجملة "ازرعوا فى الحب ورداني" وما أن بدأت أغنى حتى انساب إلى قلبى صوته الدافئ عندما راح يغنى فى نشوة:
"وأسمعـونى ياللـــى مش عارفين حكايتى
بالكلام الحلو ترجعلى أبـتـســـــامـتــــــى
دا الزمان والحب ياما تـوهــونــــــــــــى
أشترونى وأزرعــــوا بالـحــــــب ورداني
أشترونى وغـيــــــروا حـب الـزمـان ده
أشترونى خايف لا تحيونى النهـارده
وترجعـــوا من بكره تانى تمـوتـونــــى

لم تكن أموال الدنيا تستطيع أن تشتريك يا صديقى، فقد اشتريتنا أنت نحن كل من تشرفنا بصداقتك، اشتريتنا بكل خلية من قلبك ومشاعرك النبيلة أيها الغجرى المذهب النبيل ولك كل الصفات الحسنى وسوف ننتظرك جميعًا كل ليلة فتذكر موعدنا يا "عظمة" وألقاك غدًا بعد التاسعة مساء.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة