هنا قامت الثورة، وهنا سجلت عيونهم تفاصيل شهادة الحق على ثلاثة أعوام غيرت وجه الميدان، لم تكن مواقعهم البسيطة تحمل يوماً فرقاً يذكر بين تفاصيل ميدان ضخم اختارته الثورة للانطلاق، واختارتهم أيضاً لتسجيل وقائعها بعيون شاهدة وأنوف لم تغادرها رائحة الدماء والغاز، وقلوب حملت الحكايات ولن تعود لسابق عهدها مهما توالت السنوات.
سكان الميدان وشهود العيان ونبض الحدث.. هكذا يمكن وصفهم، وضعتهم الأقدار بين رحى اشتباكات ظهرت عليها علامات الثورة منذ اللحظة الأولى، فكانت أماكنهم بين جدران ثورة غضب يتذكرون تفاصيلها وكأن عمراً لم يمر.
مكتبة صغيرة فى منتصف شارع "محمد محمود"، فرشة جرائد فى الميدان، كشك صغير، وجراج كان ملجأ للمصابين، ومحل لم يغلق أبوابه فى عز الضرب، هى نماذج مختلفة لسكان الميدان الذين شهدت عيونهم ملحمة وراء أخرى، اختلفت مواقعهم باختلاف مكان الحدث، داخل قلوب كل منهم حكايات احتفظوا بها لأنفسهم واختاروا سردها لإحياء ذكرى ثورة لن ينساها حتى من تابعها من خلف الشاشات.
"الحاجة نجاة" لم تعرف سنوات عمرها سوى مكتبتها الصغيرة فى مدخل البناية المواجهة للبوابة الرئيسية للجامعة الأمريكية بشارع "محمد محمود"، ممر ضيق بمدخل البناية وضعت به بعض القوائم الخشبية التى تحمل أدوات مكتبية بسيطة وبعض التسالى التى يلجأ إليها المارة، طلبة الجامعة الأمريكية ورواد مجمع التحرير هم من اعتادت رؤيتهم من زبائن توافدوا على مكتبة "عمو سيد" الشهيرة فى مقدمة الشارع، قبل أن يتغير شكل الزبائن وتختلف الأجواء المحيطة بها، منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة قبل سنوات تتذكر تفاصيلها "الحاجة نجاة"
"الميدان ثم الميدان" مازالت تهتف بصوت خفيض لا يسمعه سواها، رغم مرور ثلاثة سنوات كاملة، وتحكى "نجاة" قائلة: أنا قاعدة على الكرسى ده من وأنا عندى 8 سنين، عمرى ما توقعت أشوف حد غير شباب الجامعة الأمريكية، واللى رايح واللى جاى على المجمع، من أول يوم ثورة "سيبت المكتبة وقعدت معاهم فى الميدان ما قفلتش الباب ولا خفت على حاجتى، أول طلعة كانت أحلى أيام شفت فيها مصر بتتولد من جديد".
مرت الاعتصامات والأحداث واختلف الحال، كما تحكى "نجاة" عن المعاناة الحقيقة فى أحداث "محمد محمود" الأولى والثانية، "المكان هنا فى وسط المعمعة، باب العمارة ما بيتقفلش، كنت بشوف الشباب داخلين على رجليهم وطالعين على موتوسيكلات بتجرى بيهم على عربيات الإسعاف".
تتذكر "الحاجة نجاة" مشهد "جيكا" الذى استقر فى مخيلتها كأبرز مشاهد الثورة التى لمست قلب "أم"، كما تؤكد قائلة: لما مات جيكا الدنيا هنا أتقلبت، شفته آخر مرة لما كانوا شايلينه على المستشفى، قالوا عايش وبعدها بكام يوم عرفت أنه مات فى المستشفى، إحنا هنا أتعودنا أن القيامة ممكن تقوم فى أى لحظة، بس هنفضل هنا مش هنسيب الميدان".
محال أخرى ملاصقة لمكتبة "الحاجة نجاة" عاشت الأحداث ذاتها، بعضها من أغلق أبوابه للأبد وترك الواجهة كلوحة لجدرايات الجرافيتى التى تسرد قصة شارع لن تنساه الثورة، والبعض الآخر ممن رفض الحديث لجرح ربما أو خوفاً من سرد ما قد يحيى ذكرى لم تلتئم أوجاعها، أما الشوارع الجانبية فظلت متعلقة برائحة الشهداء وبقايا ما كتبوه فى اللحظات الأخيرة على جدرانها، على ناصية شارع "يوسف الجندى" أو كما يطلق عليه أصحابه "منطقة الفراغ بين الداخلية والثوار" استقر كشك "سامح عباس" فى موقع استراتيجى لم يسمح له بالجرى قبل اشتعال الاشتباكات، بناية تحمل رقم "5" شارع يوسف الجندى وجراج مواجه لبوابة الجامعة الخلفية كان محيط حركته بين الاختباء ونجدة المصابين داخل بوابات البناية التى يعرفها السكان كمخبأ له تاريخه فى ملحمة ثورية.
"الكشك اتهد وأتحرق 100 مرة من أول الثورة، ورجعت ووقفت فيه تانى".. هكذا يبدأ "سامح" حديثه عن مكان لم يعد مصدر رزق فحسب، من عندى هنا كنت أقدر أشوف عساكر الأمن المركزى، اللى كان ده مكان تجمعهم عشان يقفلوا مدخل الميدان على الثوار، الشارع قريب من الوزارة، وكانت المنطقة دى هى المكان الفاضى بين الداخلية والصفوف الأولى للثوار".
"الثورة اللى جت برزقها وبعدين خدته تانى".. هكذا يصفها "سامح" الذى بدأ أحلى فترات عمله فى أيام اعتصام الـ18 يوماً الأولى، كانت الثورة بالنسبة له فى البداية إعلاناً عن فرصة رزق لن تعوض، شهور مرت حتى اندلعت الأحداث مرة أخرى فى شارع محمد محمود كانت كفيلة بوقف الحال، وبداية لحالة جديدة عاشها "سامح" كغيره من سكان المنطقة الذين أغلقت معظمهم المحلات وترك سكانها المنازل خاوية، "لما ولعت الدنيا فى محمد محمود، فضلت بايت فى الجراج يومين كاملين، ولما خرجت طلعت على عمارة 5 عشان ألحق الناس اللى كانت بتتخنق من الغاز".
مشاهد الأحداث وشكل الشارع الذى أغلقته الجدار حتى الآن، لن ينساها "سامح"، الذى لا يحتاج لذكرى ليتذكر ما حدث، يكفيه إغلاق عينيه لمشاهدة شريط الأحداث حاضراً لن يختفى بسهولة.
شوارع متداخلة تفصل بين "كشك سامح"، ومحل "مكرونة رضا" بشارع منصور، الاسم يعرفه من أقحمته الأحداث فى تفاصيل موقعة وزارة الداخلية التى تفصله عنها خطوات لا تذكر، مشهد المحل ورواده وسط الغاز وطلقات الخرطوش لا يغيب عن مخيلة "عمرو جميل" صاحب العمارة رقم 56 بشارع "منصور" وصاحب محل "رضا"، الذى رفض إغلاق أبوابه رغم الأحداث التى رسمت شكلاً كوميدياً لمتظاهرين خرجوا هرباً من سحابة دخان كثيفة لالتقاط الأنفاس فى محل مكرونة، وربما تناول وجبة سريعة أو لشرب المياه، كما يحكى "عمرو" قائلاً: الأحداث كلها كانت هنا، أنا ما قفلتش ولا يوم، كان فى ناس كتير بتيجى تستخبى فى الممر، وكنا بنساعدهم فى مدخل العمارة، أنا هنا عندى أكثر من 30 عامل لو قفلت يوم هيموتوا من الجوع".
لم ينس بعد ما عاشه مع الثورة، التى حولت من محله مكاناً لذكرى من ذكريات ثورة مليئة بالحكايات.
لمزيد من أخبار المنوعات..
أفضل طريقة للتخلص من رائحة فضلات الحيوانات المنزلية
دراسة: الأطباء ينفقون ثلث وقت الكشف على مرضاهم فى تصفح الإنترنت
بالصور.. "ملامح من مصر" معرض لوجه مصر المشرق من "صناع الحياة"
بعد 3 سنوات.. حكايات سكان "الميدان" لسه فاكرة الثورة
السبت، 25 يناير 2014 11:23 ص
صورة ارشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة