الشاعر الكبير فريد أبو سعدة يكتب لـ"اليوم السابع" عن رواية وحيد الطويلة " باب الليل

السبت، 07 سبتمبر 2013 02:05 م
الشاعر الكبير فريد أبو سعدة يكتب لـ"اليوم السابع" عن رواية وحيد الطويلة " باب الليل الشاعر الكبير فريد أبو سعدة

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
رواية وحيد الطويلة "باب الليل" تعيد الاعتبار لما يسمى لذة النص، فعبر طرائق من التشويق والإبهار والإثارة، نرى هذا الحكّاء المصرى، بروحه التى لا تخلو من اللؤم، يمسك بك بفنون من السرد والشعر، مقدما فى إيروتيكيته أوصافا تثير حسد الشعراء، بينما ينزلق بنعومة من تضاريس الجسد المغوية، ليدخل بك إلى باطن شخصياته المعتمة دون جلبة، ودون قسوة، بل برحمة وتعاطف يليق بنفوس مقهورة، مهزومة، وإن بدت متطاوسة أحياناً، أو معتدة بنفسها وتاريخها.

البناء الروائى فى " باب الليل" لا يشبه معماراً عموديا كبرج هائل، بل أشبه بمعمار موتيلات متجاورة، أو بقصيدة تتكون من صور شعرية منفصلة، تعطى الفرصة لقارئها أن يرتبها كموزاييك، بناء على قراءته وحدسه، فيكتشف ما يجعلها وحدة برغم تشظيه!

وهى رواية مكان بامتياز، وتذكر بالنصوص المسرحية الرائعة، مثل "سكة السلامة"، حيث تكون الأزمة الدرامية مناسبة لتعرى الأشخاص.
يتوزّع السرد على عدة أبواب/ فصول، يبدأ بـ"باب البنات" وينتهى بـ"باب لِلاّدرّة"، أى بين باب الغوانى وباب السيدة الرئيسة، مرورا بـباب الهوى، باب العسل، باب الملكة، باب النحل، باب الوجع، باب الجسد، باب الريح، باب النار، باب البحر، باب الرجال، باب النساء، بعض هذه الأبواب هى "أبواب مدينة تونس، وبعضها أبوابك أو أبوابها" ملتفتا إلى القارئ المفترض، ومنتقلا بحكاياته من الأمثولة إلى فضاء متخيل يتقاسمه مع القراء .

نحن هنا فى مقهى "لمّة الأحباب" يا له من اسم مكتنز بالدلالة !، "مقهى سِرّه داخله، يطوى غرامه فى أعمدته ،أو أثدائه المزروعة فى كل مكان، شواهد حيّة، أو فى سقفه، الذى يدفن الحكايات فى ثنايا تموجاته، منطو على نفسه، يكاد فى لحظة أن ينطق بكل الأسرار"!
هنا حيث يرتاد الزبائن /أبطال الرواية عالمهم الذى يشبههم، هنا حيث لكل مجموعة طاولة، وحيث لكل زبون حكاية فريدة، وهزيمة قابعة تحت جلده، هنا حيث كل الأبطال، يبحثون، على سبيل التعويض، عن «معارك صغيرة» يحققون فيها انتصارا.

فلول الثورة الفلسطينية الذين انقطعت بهم السبل فى تونس بعد أوسلو، وليبيون هاربون من قمع القذافى، وتونسيون يسكنهم الخوف من حكم بن على، ونساء فشلن فى إقامة حياة محترمة وآمنة، فلم يجدوا بدا من أن جعل المتعة حياة كاملة، فيصير الجميع، رجالا ونساء، مجرد صيادين وطرائد، يتبادلون الأدوار،، فى لعبة الشغف والقنص، التى يتخففون بها من قسوة جلد الذات، تبدأ اللعبة بتبادل أرقام الهواتف سريعا لحظة دخول الحمام «كلهم يغشونه، يرمون شباكهم أمام مرآته، يعقدون صفقاتهم، تغمز صنانيرهم، ويرتفع خطاف هنا وهلب هناك، وعندما يعودون لمقاعدهم يطلبون بعضهم سريعاً فى الهواتف، يتواعدون على اللقاء خارج المقهى"، وتنتهى اللعبة بحروب عزلاء، على أسرّة لا تكف عن استقبال قناصين وفرائس، إنها اللعبة التى تمنح الغرباء فرصة الهروب من القهر والاستبداد واحتقار الذات.
واحد من انكشاف الموزاييك عن ترابطٍ يجعله أكثر مما يبدو عليه، هو هذا الحبل السرى بين الإيروتيكا الفائحة فى النص، والبوليتيكا التى تطل منكسرة، ومعذَبة بحلم العودة.
كان أبو شندى يتذكر دائماً طعم العملية الأولى، "كانت فى بوخارست ضد واحد من عصابة الهاجاناة اليهودية التى دبرت مذبحة دير ياسين.، كان يستمتع ببقية عمره سعيداً فى رومانيا.. تقدم منه أبو شندى وأرداه قتيلاً باسم الثورة الفلسطينية ثم رفع يده بعلامة النصر وانتقل للإعداد والتخطيط وتكوين المجموعات، وكان من بين أعماله شراء ماخور فى ألمانيا، وتخصيص الدور الأول فيه للقمار، والأعلى للسكنى والمبيت، والأسفل مخزنا للقنابل والخرائط وأجهزة الاتصال، كان يفاخر بأنه حتى الثورة تحتاج للمومسات"، وهو ما يرتب، فى الوقت ذاته، توازيا بين مصائر المناضلين المتقاعدين، الساقطين من ذاكرة منظمة التحرير، ومصائر المومسات البائسة، الساقطة من اعتبار المجتمع، حتى يلتحموا جميعا فى مصير إنسانى فاجع فى ختام صفقات الجسد العبر والثورة المهدرة.

شخصيّات ضائعة بين حلم مستحيل وواقع ككثيبٍ من الرمل يهيل مهددا بالانهيار، تبحث عن سلوى أو تعزية عن هزائمها، وتتماسك فى ما بينها بالونسة، حيث يمكن للبوح والشكوى أن تجعل منهم كتلة فى مهب الأسى: "أبو شندى، "أبو جعفر"، "غسان"، "شادى"، "كسوف" وغيرهم، تقابلها وجوه نساء فاتنات، قاتلات باللذة وقتيلات بالرغبة فى الأمان والوجاهة الاجتماعية، تلك التى حُرمن منها، فأصبحن رهائن لسطوة المال ونفوذ الذهب :"للّا درّة"، "نعيمة"، "حلومة" وغيرهن
يدورون جميعا رجالا ونساء فى فضاء المقهى، أسرى فى فلكه وعالمه.
كثرة من الشخصيات، تصلح كل واحدة منها أن تستقل بعمل روائى، يقبض على غنائها الوجودى، وعذاباتها وطموحاتها ورهاناتها الخاسرة، كائنات تمكن الكاتب فى اصطياد أهم ما تمثله فى الفضاء الإنسانى الباطنى للنص، لكن ببعض التعسف يمكن تصور أنها تدور فى إطار مركزين يمثلان قطبى الرواية هما " لِلاّدرة " و"أبو شندى".

ويؤكد التوازى فى السقوط الأخلاقى والانتهازى بين المناضلين المنسيين، وبين غوانى "لمة الأحباب"، هذا الحس النفعى الانتهازى عند" لِلاّدرة" و"أبو شندى"، فهى " تعرف بخبرتها، باحتكاكها الدائم بهم أن السلطة تأتى فجأة وتذهب فجأة، وعلى قدر ما يتوجب مهادنتها أحياناً يجب مواجهتها حيناً، الفرصة أصبحت سانحة لتنتهى من لعبة شبعت منها ولو مؤقتاً، ثم أن غيابهم وما يصل إليها يؤكد أن الوقت ليس وقتهم وأن عليها أن تذهب فى اتجاه الريح بعدما تأكدت الأنباء المتواترة حول مظاهرات تعم البلاد لم تكن تظهر على قنوات التليفزيون المحلية، وبعدما صار الذى جرى سراً، يظهر علناً على قنوات أخرى.

بينما يستخدم أبو شندى كل خبراته النضالية فى مجرد الحفاظ على وجوده الفيزيقى " أبوشندى المتوجس دائماً من إنهم يحسبون عليه كل حركة، هو يعرف بحسه المخابراتى القديم أن أفضل طريقة للاختباء بعيداً عن أعينهم أن يقترب منهم، أن يعيش بينهم حتى لا يروه ولا يشغلوا بالهم به، يستطيع أن يوسّط درّة لحل مشاكل الإقامات المتأخرة، وفاتورة الكهرباء التى لا يدفعها، وعلى الأقل إذا كان لم يستطع أن ينال درة فليحصل على شيء من منافعها،. . أى حاجة والسلام".
يسقط بن على، وتتساقط صوره فى الحمام، تركلها «لِلاّ درّة» بقدمها و«تحملها بأطراف أصابعها إلى سلة القمامة»، بعد أن كانت تتزلف لأصغر رجل أمن يدخل إلى المكان، وتعطيه ما يريد من نقود وفروج وأوقات هانئة. ولأن ما جرى فى الخارج هو استبدال استبداد باستبداد آخر، لا تجد نفسها مضطرة إلا لتغيير الشكل، فـ«تزيح المجاهدات اللاتى تعبن من النضال» وتأتى ببنات هوى أخريات، وتعطى المقهى اسما جديدا، ويستمر ولاؤها لـ«ثورة الغرام» التى تعيش لها، ولأن كل شيء يبدأ فى الحمام !!، تستمر الدائرة المفرغة فى دورتها بين «الضابط الشيخ" و"الشيخ الضابط".





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة