يدان مصقولتان وقدمان يعرفان طريقهما جيداً فوق غلاف ليفى شائك يرتفع 25 متراً نحو السماء.. هى بطاقة هويته الحقيقية فى قوانين عالم "طالعين النخيل"، ابتسامة ترتسم وجهه قبل أن ينطلق برشاقة ساحرة فوق نخلة جديدة تتسلسل فى مجاميع خلابة ودقائق معدودة يكون قد وصل لقمه عالم آخر "بين السماء والأرض" لا يعرف تفاصيله سوى حاملين ختم هويته التى يتوارثها منذ الجدود، دقائق أخرى ويعود حاملاً نفس الابتسامة مع غلته من البلح وجملة واحدة يلقيها بلهجة قروية "هنا عالم ثانى يا بيه.. إحنا أتولدنا فيه عشان نطلع النخل ده".
لافتة مغطاة بالأتربة وآلاف النخل على طريق سقارة الملتوى يعلنوا عن اقترابك من أرض قرى "الحرانية" التى يستقر عليها سر "سلام محمد" صاحب الثمانية عشر عاماً هو والآلاف مثله من "طالعين النخيل".. بالداخل سيقابلك هدوء يكسره صوت معدات الزراعة، ولون أخضر يكسوا المكان تغلفه حواديت السحر "العلوى والسفلى" وأساطير الجان التى ألقتها ظلال الأهرامات وأحلام البحث عن الآثار وفك لعنة الفراعنة خلال فترات الراحة، ومئات الشباب والأطفال وحتى كبار السن يتسلقون آلاف الأمتار يومياً على جذوع النخل الدائرية ويرونها "شغلانة سهلة ومفيهاش أى خطورة".
على أبواب طفولة "سلام" وغيره تستقر مفاتيح العبور إلى عالمهم الخاص، يعود لها بينما تدور خلية نحل من الزملاء حوله فوق النخيل ويقول "أنا أتولدت لقيت أبويا وارث الشغلانة عن أبوه عن جده عن جدودهم، أطفال العيلة والقرية كلهم بيتسابقوا مين اللى هيطلع النخلة أسرع، بنبدأ بربع النخلة وبعدين نص، ولما نوصل لآخر النخلة بنبدأ نشتغل".
"فلاش باك" يعود به محمد خطاب صاحب الـ35 عاما، إلى بداية يومهم عند دقات الساعة السادسة صباحاً، حيث تستقر لحظة الانتشار كلُ يحوط نفسه بالحبال ويحمل صحن قماش دائرى تضبطه حبال أخرى حتى الأعلى لجمع ثمار النخلة بالكامل فى طلعة واحدة وينتهى مع آذان المغرب وكوب شاى "خمسينة" وحكاوى القرية القديمة، يُفصِل "خطاب" الأمور ويقول "الصحن القماش اللى بنشيله ده اسمه الطبق، بنطلع بيه لحد قمة النخلة ونعلقه فوق وإحنا بنجمع البلح، تقريباً الطلوع والجمع بياخد من عشر دقايق لحد ربع ساعة فى النخلة، وممكن يزيد شوية لو هنرش النخلة عشان الحشرات، واليومية دلوقتى وصلت حوالى 100 جنيه".
ده عيد المنطقة بتاعتنا.. يمتد صوت رخيم من رجل ستينى بجانب الشباب ليصف موسم جمع البلح ويسترسل "موسم الجمع ده كله ما بياخدش أكثر من عشرين يوم، ومعظم الشباب وحتى الكبار بيسيبوا كل حاجة ويجوا يشتغلوا فيه ويتجمعوا فى الغيطان لحد المغرب، زى العيد بالضبط، وكل سنة بيتغير معاده 15 أو عشرين يوم، وبعد ما يخلص كل واحد بيرجع شغلانته".
طيب الشغلانة اختلفت عن زمان؟ يجيب الرجل الذى عرف نفسه عقب ذلك "عم جمال" ويقول "الشغلانة طول عمرها من يوم ما أتولدنا ما أتغيرتش بنورثها من جدودنا وعيالنا يورثوها مننا، بس اللى اختلف الرزق كان زمان نجمع النخلة بقرش دلوقتى بتوصل خمسة جنيه، واليومية كانت كلام فارغ دلوقتى 100 جنيه، بس زى كل حاجة قليلة الفلوس زمان كان ليها طعم وقيمة، دلوقتى مهما كترت بتخلص".
"طالع النخلة" وأسرار الحياة بين السماء والأرض
السبت، 21 سبتمبر 2013 05:18 م