نحن نتصور أن السياسة ليست لها علاقة بالإبداع، وهذا غير صحيح، فالثورة هى إبداع جماعى كما سبق أن بيّنت مرارا، على شرط أن تكتمل لها شروط الإبداع، وأن تواصل مراحله حتى يتم التشكيل الجديد، وإلا فهى الفوضى التى هى إبداع مجهض، تماما مثلما أن الجنون إبداع مجهض، طبعا الذى حدث هو شىء رائع ومفاجأة لم نكن نحلم بها لكنها مثل بداية أى إبداع حقيقى، مهما كانت مثيراته، أو ظروف توقيته، أو حتى دوافعه السابقة مباشرة، هى مجرد بداية، وبالتالى علينا أن نتحمل مسئولية استعمال هذا اللفظ الجميل "الثورة"، حتى نتحمل أمانة ما أهدانا به ربنا عبر الشباب فالشعب مرة، ثم الشعب فالجيش مرة أخرى.
لا يقتصر استعمال القياس على الإبداع فى السياسة على الثورة كإبداع جماعى، وإنما يمتد إلى كثير من مجالات السياسة، فالقائد السياسى القادر هو الذى يستوعب نبض الناس، ثم يتماهى مع ثقافتهم هاضما تاريخهم ليمثلهم وهو يخطط لهم المستقبل، وهو القادر على اقتحام مجالات جديدة لصالحهم، وهو الذى لا يتردد فى طرح حلول غير مسبوقة، واختراق صعوبات متمنعة، فلا تكون غاية همه هى أن يرشو مشاعرهم، أو يدغدغ أحلامهم، أو حتى يحقق مطالبهم، بل هو الذى يأخذ بيدهم من خلال اختراقات غير مسبوقة إلى ما يحققون به مآربهم بأنفسهم تحت قيادته.
والذى يجرى فى لجنة الخمسين لصياغة الدستور هو تصحيح طيب ومهم، لكنه أبعد ما يكون عن ما يسمى الإبداع اللازم لهذه المرحلة الضرورية لاستكمال المسيرة، لا بد من التركيز على فتح باب الاجتهاد على مصراعيه، لكل عقل مبدع ثائر وطنى مؤمن قادر، ليس فقط فيما يتعلق بالمادة الثانية او المادة 219، وإنما فيما يتعلق بأساليب الإنتاج، والاستقلال الاقتصادى، والتعاون البشرى، والتعليم والفن والعلاقات بين الناس فى الداخل والخارج.
أنا أعرف طبعًا أن كل هذا لا يرتبط بالدستور بشكل مباشر، وأتصور أن الدستور ينبغى أن يكون فى غاية الإيجاز مكتفيا بتحديد المبادئ العامة، وأن تترك كل التفاصيل للمارسات الإبداعية اللاحقة تصيغها قوانين متجددة بحركية مرنة طول الوقت تتناسب مع ما يستجد من متطلبات، وما يتحقق من إنجازات، إن كل المعروض على هذه اللجنة الموقرة، سواء من الأفكار المحلية والمستوردة، القديمة والمستحدثة، هى قيم ثابتة تصنـّمت (من الأصنام) تحتاج إلى اختراقات مجددة عبر العالم، فلا الديمقراطية المشبوهة هى غاية المراد، ولا حقوق الإنسان المكتوبة هى حقوق الإنسان التى كرم بها ربنا بنى آدم، ولا العولمة بعيدة عن شبهات الاستغلال والاستعمال والاستعمار الاقتصادى الخبيث، وأى دستور يركز حتى التقديس على ثوابت المعروض حاليا فى أسواق السياسة محلية أو عالمية، هو قيد قد نقبله مرحليا مضطرين، لكنه بعيد كل البعد عن ما يحتاجه الإنسان المعاصر من ثورة أو طفرة أو إبداع.
ألم يؤن الأوان بعد أن تعرت عيوب هذه الديوقراطية الملوثة بالإعلام والمال ودغدغة العقل البدائى للإنسان أن ينتفض البشر بحثا عن آلية ديمقرطية أخرى ربما تكون قادرة على قياس الوعى العام، وليس فقط الرأى الظاهر العام، وأنا أعتقد أن التكنولوجيا الحديثة سوف تتيح لنا فرصة مثل هذه، فمثلا قد تتيح لنا سؤالا من يُستفتى على المادة الثانية –كمثال- أن يكتبها أولا من الذاكرة مع تحديد معنى "مبادئ", و"الرئيسية" بالنسبة له، وذلك قبل أن يؤخذ صوته صحيحا، وهكذا.
ما رأيكم؟ (عذرا: المفروض أنى طبيب نفسى!!)
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
مقال رائع كالعاده -نحن فى امس الحاجه الى الطبيب النفسى فى كل مؤسسه ومدرسه وكليه
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
اعتقد بين الابداع والجنون شعره ساعه تروح وساعه تيجى-يعنى منديش الامان المطلق للحاكم
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
مستشفى والعياذ بالله مليانه بمدعى النبوه والمهدى المنتظر - وللاسف اللى بره اكثر منهم
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
الماده 219 تحوى عدة تفسيرات متناقضه ولا يمكن الاخذ بها لاختلاف احكامها بين المذاهب ال 4
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
الماده 219 يخشى من تشددها وصعوبة تطبيقها وقد تدفع بالبعض الى تغيير دينه هروبا منها
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
الابداع السياسى ممكن يستخدم الماده 219 كقانون طوارىء لتقيد الحريات ومنع المظاهرات
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
اسلام نوار
مقال جميل من رجل الضمير
م