بين طرقات مظلمة تجدهم على استحياء بأصوات منخفضة وأضواء خافتة أبقوها مضاءة لكسر الصمت المحيط بشوارع أحاطها "الحظر"، بينهم اختفت ابتسامات أبقوها غير معلنة عن سعادتهم فى استقبال ساعات حظر جديدة هى فترات يومهم المفضلة التى انتظروها لأهداف أخرى بعيداً عن الأحداث، من السابعة مساء للسادسة صباحاً استطاعوا تحقيق أمنيات بسيطة، طالما وجدوا تحقيقها مستحيلاً ولعب قرار حظر التجوال دوراً فى تحويلها إلى أمر واقع على سبيل المصادفة، تركوا من يتحدثون عن اللحاق بموعد الحظر وصرامته واستمعوا فى صمت لما يمليه عليهم شريط الأخبار وأبقوا بداخلهم ارتياح لساعات الحظر الطويلة التى اجتمعوا على حبها، بل وعشقها أحياناً، بعضهم من انتظرها لبقاء من يحب بجانبه أمام شاشة التلفزيون، والبعض الأخر من أراحته ساعات الحظر من فترة عمل ليلية أو عمل إضافى أو أعطتهم ساعات الحظر وقتاً لممارسة رياضة أو مهنة أخرى دفعتهم للاستجابة للقرار بنفوس راضية، رافعين شعار "عشاق حظر التجول".
سيدات تمنين بقاء أزواجهن بالمنزل، موظفو الخدمات الليلة وعمال السكك الحديدة وأصحاب "الشيفتات"، عساكر المرور ممن اعتادوا السهر، مقاهى وبقالات وأكشاك بين الطرقات أعطاها حظر التجوال انتعاشة اقتصادية هائلة، أمهات طالما انتظروا رجوع أولادهم من التسكع ليلاً حتى الفجر وغيرهم من مواطنين مصريين بسطاء عشقوا قرار حظر التجول، واكتفوا بتطبيقه فى سعادة دون تذمر وغيرهم ممن تمتعوا بساعاته، وحرصوا على استغلاله بكل طريقة ممكنة من وجهة نظرهم الخاصة.
ساعات الحظر.. حلم كل زوجة مصرية أصيلة بعودة زوجها للمنزل
ابتسامة خبيثة أخفتها عن الجميع فور إعلان حظر التجول لمدة شهر كامل، قررت استغلاله أكبر استغلال ممكن، ساعات الحظر التى قررت الاستمتاع بقضائها بصحبة زوجها وأسرتها هى الساعات التى تفضلها كل زوجة مصرية، طالما خاضت حروباً متصلة لإقناع زوجها بالعودة مبكراً للمنزل أو الاستغناء عن ساعات السهر على المقاهى ليلاً وتركها فى انتظاره، أو القلق على خط سيره اليومى، دون أن تدرك أن قرار حظر التجول هو حكم "القوى" الذى أنصفها أخيراً على زوجها وأجبره على البقاء فى المنزل بقوة عسكرية.
لم تكن تعلم أن حياتها المنتظمة فى طريقها للتغير لمدة شهر كامل، من المتوقع أن يسير طواله زوجها على الخط المستقيم من العمل إلى المنزل دون انحرافات ليلية لا تعرف حقيقتها بدقة، قلقها المتسمر ونقاشاتها الطويلة وأسئلة لا تنتهى من نوعية "بتروح فين؟ وهترجع أمتى" وغيرها من النقاشات المصرية داخل كل بيت وضع لها الحظر حداً مؤقتاً، وترك الزوجة المصرية فى راحة من التوتر الزوجى المعتاد، بل ونصرها على حرب الجلوس على القهوة والسهر اليومى مع أصدقاء لا ترتاح لهم، ووضع أمامها حياة وردية لمدة ثلاثين يوماً انتصرت خلالهما على زوجها الذى جلس مقهوراً بجانبها أمام شاشة التلفزيون يتابع أخبار الشارع الذى لا يجرؤ على اختراقه طوال ساعات حظر التجول.
بشرى سارة لأصحاب الشيفتات.. هل هلالك حظر مبارك
مع انتهاء ساعات النهار تبدأ حياتهم الليلية التى قلبت نظام يومهم رأساً على عقب، تبدأ المناوبة المسائية رحلة من السهر اليومى الذى ينتهى وقد تدمر الجهاز العصبى لمن وضعهم الحظ العاثر من أصحاب الوظائف الليلة أو وظائف الخدمات كعمال كهرباء الشارع وموظفين الخدمات فى الهيئات المختلفة أو موظفين خدمة العملاء فى شركات الاتصالات وغيرها من الشركات، التى تعتمد على المناوبة اليومية أو الخدمة المتواصلة طوال ساعات اليوم، هم وغيرهم ممن أطلقوا على أنفسهم أصحاب الشيفتات، كانوا أول المستقبلين لقرار حظر التجول بنفس السعادة التى استقبلوا بها هلال الشهر المبارك أو يوم العيد الذى أنهى ساعات دوامهم فى تمام الساعة السابعة، وتركهم فى إجازة مدفوعة الأجر "لا كانت على البال ولا على الخاطر".
أعمدة الإنارة التى لم تعد تشغل بالهم إصلاحها فهى بطبيعة الحال بقت مطفأة، ومناوبات الإجابة على التليفونات فى الشركات والهيئات من أصحاب خدمة العملاء ممن تركوا خلفهم رسالة مسجلة تخبر المتصل أن الموظف غير موجود بالخدمة، وموظفى الخدمات الليلية فى محطات المترو والقطارات وعمال التحويلة وشبابيك التذاكر فى محطات الأتوبيس والسينما فى كل مكان فى مصر من اللذين جلسوا فى منازلهم منذ السابعة، تاركين شبابيكهم لحين إشعار آخر، عمال المحلات والمقاهى والصيدليات التى اعتادت السهر طوال ساعات الليل ممن بقوا فى منازلهم بأوامر عسكرية فى انتظار الفرج، الطيارين من عمال "الدليفيرى" فى المطاعم الذين اعتادوا كسر الظلام برحلاتهم الطائرة لتوصيل الطعام مهما كانت الظروف وغيرهم من العاملين ليلاً ممن جاءهم الحظر من السماء لقضاء وقتاً متاحاً من "الروقان" بأوامر عليا لا يصلح كسرها.
عسكرى مرور ولا دفعة.. هتروح بالليل وابقى تعالى بدرى
داخل أكشاك صغيرة يعلوها سقفاً واهياً للوقاية من شمس حارقة أو برد قارص، اعتادوا التواجد فى أماكنهم حاملين الإرشادات المضيئة، عيونهم التى أمرتهم قياداتهم بإبقاها مفتوحة طالما تركزت على الطريق حفظت لحظات فتح الإشارة وإغلاقها، وتعودت آذانهم أصوات السيارات وشتائم السائقين ومشاجراتهم أحياناً، تحرير المخالفات ولصقها على الزجاج الأمامى لأى سيارة مخالفة، وتنظيم المرور والتعايش مع أهوال البقاء فى الشارع بعيون يقظة، ساعات متصلة هى وظيفتهم التى لا يعرفون غيرها وظيفة أخرى كعساكر مرور أو عساكر لتأمين الأماكن الهامة، لم يكن يعلم أحد من هؤلاء أن قرار حظر التجوال هو ما يمكنه إرسالهم لمنازلهم والسماح لهم بإغلاق عيونهم قليلاً والتمتع بحظر أفضل داخل منازلهم الدافئة، بعيداً عن صخب الشارع وأهواله المستمرة.
معظمهم لا يعرف سوى ما تم تكليفه بالقيام به لا يناقش أو يدلى برأيه فمكانه ودوره محدد مسبقاً، ساعات الحظر الطويلة التى اعتاد من قبل قضائها فى الطرقات ليلاً هى ما تغير حالها واختلفت عما قبل، بعد أن سمح له الحظر بقضائها للمرة الأولى بعيداً عن مكان الخدمة، فتحول من دفعة إلى واحد من عشاق حظر التجول الذى أعطاه فرصة لتحويل عينيه عن الطريق، وشغل يديه بأمر آخر سوى تحرير المخالفات والوقوف انتباه تحت الشمسية، وفض اشتباك السيارات، وتحمل أبواقها وضوضائها التى لا تنتهى.
ماتش كورة.. دورى الشارع.. فورة كوتشينة.. أنشطة الحظر المصرية
دقات الساعة تشير إلى السابعة مساء الهدوء يسيطر على الشارع والأمن يستتب بالخارج، الطرقات خالية من المارة وقوات الجيش منشغلة بمراقبة الطريق، بينما وقف بعضهم أو جلس طلباً للراحة أو كوبا من الشاى المحبب من بعض الأهالى أو علبة سجائر من كسك قريب، راقبوا المشهد من أعلى، واتفقوا على موعد النزول والتجمع تحت منزل أحدهم فى المنطقة، قسموا شباب الشارع والعمارات المجاورة إلى فرق انقسمت وأطلقت على أنفسها أسماء ثورية حديثة للقاء السحاب فى أحداث دورى المنطقة، انطلقت أرجلهم فى اتخاذ الأماكن التى حددوها صباحاً بالتباشير هنا مكان الجول وهنا ملعب الفريق المنافس، دكة الاحتياطى والكرة التى تبرع بها أحدهم لدور الحظر الذى تصطدم به فى منطقتك ليلاً بعد أن يختفى المارة من الشوارع، ولا يبقى سوى صوت صيحات اللاعبين الذين انتظروا حظر جديد للإعلان عهد دورى آخر من دوريات حظر التجول التى اعتادها الشعب المصرى، حتى لو حاولوا إخفائها داخل مناطقهم المظلمة أو بعيداً عن مدرعات الجيش التى شاركتهم اللعب فى حظر المعزول مرسى.
السهرات الشبابية والتجمعات ومقاطع الفيديو الساخرة التى لم تخلو من اللعب والرقص أحياناً، هو المشهد الذى صاحب حظر التجول، وبقى أصحابه على هامش ما يحدث، محتفظين لأنفسهم بمساحة من عشق ساعات الحظر التى حولوها لساعات من المرح الليلى الممتزج بلذة سرقة الوقت، دورات "الكوتشينة" وأكواب الشاى تدور حول الشباب طوال ساعات الحظر وصفارة الخطر، والضحكات الساهرة التى ترك لها الشعب المصرى مجالاً للخروج على الرغم من ضبابية الأحداث هى العادات التى ما زالت حاضرة فى أذهان الشباب اللذين عادوا للتجمع حول منازلهم فى هدوء الطرقات المظلمة وأصوات مدرعات الجيش التى تجوب الشوارع حيناً بعد أخر على جانب مشاهد مصرية استغلها عشاق الحظر ببصمة مصرية خالصة.
بقال ولا سوبر ماركت..كشك ولا قهوة ولع النور الواطى وبراحة لا حد يشوفك
مئات من المواطنين عاقدين العزم على تحويل ما يمكنهم تحويله من السوبر ماركت إلى ثلاجة المنزل التى حرصوا على إبقائها دافئة بمجرد إعلان قرار حظر التجول، الذى يتساوى فى الأذهان المصرية بمصطلح المجاعة، هم من يواجهونك بمجرد دخولك السوبر ماركت أو محلات البقالة أو غيرها من الأماكن التى ينهال عليها الجميع للحصول على خزين مناسب، يبقيهم صامدين طوال ساعات الحظر الليلية، أما عن مصطلح المجاعة بالنسبة لأصحاب المحلات المختلفة فهى اللحظة المرتقبة التى ينتظرونها بصبر فارغ، لمرحلة جديدة من السبوبة التى تزدهر فى الساعات الأخيرة قبل اقتراب موعد الحظر، تنتهى البضائع المعلقة على الأرفف، وينتهى حلم المحلات ببيع البضاعة كاملة والتحرك فى عكس اتجاه الأحداث التى وقفت حال البعض، بينما كان لها الفضل فى انتعاش حال البعض الأخر.
أما عن المحلات والمقاهى والأكشاك التى أبقت أضواءها معلنة عن سعادتها بساعات طويلة من الحظر، فكان لها مشاركة أخرى ضمن صفوف محبى حظر التجول، فاختفوا بين البنايات داخل الأحياء وأبقوا أضواءهم مفتوحة لاستقبال زبائن المنطقة ممن يبحث عن مياه غازية أو علبة سجائر أو رغيفين من الخبز أو غيرها من السلع على الماشى، إلى جانب المقاهى التى وقف حالها فى الأيام العادية لأماكنها البعيدة عن الشوارع الرئيسية بينما وضع أصحابها خطة جديدة لحظر التجول واستقبال شباب المنطقة من الباحثين عن كوب شاى أو طاولة أو جلسة على الماشى فى ليالى الحظر المعتمة.
حظر الساعة سابعة.. الشغل النهارده نص يوم
جاءهم قرار الحظر مباغتاً بإشارة قوية لتحول يومهم الممل إلى نصف يوم فقط، نظراً لظروف البلد التى تحتم عليهم العودة مبكراً لمنازلهم، بشرى حظر التجول هى ما أضافت الموظفين والعاملين بالمصالح الحكومية والبنوك إلى قائمة عشاق حظر التجول الذى سمح لهم بالعودة مبكراً إلى منازلهم بعد أن قررت الهيئات الحكومية المختلفة تحويل موعد إمضاء الانصراف إلى ما قبل المعتاد بساعتين على الأقل، للسماح للموظفين باللحاق بموعد الحظر، وهو ما قابله الموظفون ببهجة مصرية معروفة لمن يحاول التملص من البقاء فى العمل ومحبى التزويغ والإذن وغيرها من العادات المصرية الأصيلة داخل الهيئات الحكومية.
الواحدة والنصف على الأكثر هى مواعيد انصرافهم الجديدة التى أعطتهم أملاً فى تحمل ما يحمله يوم العمل من ملل لا يطاق، سواء فى الهيئات الحكومية أو البنوك أو غيرها من الأماكن التى أعلن بعضها عن تجميد العمل حتى انتهاء وقت الحظر، فضلاً عن خلو الهيئات من العملاء تقريباً ممن اختاروا تأجيل طلباتهم إلى ما بعد الحظر وهو ما وضع الموظفين على رأس قائمة العشاق الذين تمنوا أن يدوم الحظر للأبد، وتتوقف نظراتهم عن التأرجح بين الأوراق والساعة التى تأبى الحركة لإعلان تحررهم من العمل، فبقى الحظر بالنسبة لهم فرصة لا يمكن إفلاتها فى التمتع بنصف يوم من عمل طويل بدون تزويغ أو إذن أو حيل أخرى مماثلة، تؤدى إلى النتيجة ذاتها.
الأجرة زادت يا حضرات.. والسجاير غليت وقزازة المايه بثلاثة جنيهات وأنت وضميرك
الأجرة زادت يا حضرات تنزل عليك كالصاعقة أثناء ركوبك المكيروباص أو الأتوبيس أو التاكسى الذى أطفأ العداد تماشياً مع المرحلة، عبارات غير مفسرة تتمتم بها غاضباً أثناء دفعك للأجرة التى زادت من حيث لا تدرى غير قادر على الاعتراض، "ما احنا فى حظر يا أستاذ وكل سنة وأنت طيب"، تنزل من الأتوبيس وقد انفجرت شرايينك غضباً من "استغلال الموقف" الذى تصطدم به أينما ذهبت طوال مدة حظر التجول الذى يتحول إلى سبوبة فى نظر البعض، بعضهم من يرفع أجرة الميكروباص حسب ضميره، والبعض الأخر من اختار رفع أسعار البضائع داخل الأكشاك ومحلات البضاعة "عشان هى الظروف كده، واللى مش عاجبه ما يشتريش".
سائقى المواصلات بمختلف أنواعها والباعة الجائلين وأصحاب الأكشاك والسوبر ماركت ومحلات الأدوات المكتبية وصيدليات تحت السلم وغيرها من الأماكن التى تحسن استغلال الفرص، ويبقى الحظر بالنسبة لهم فرصة لا يمكن إفلاتها بسهولة بدون الاستفادة من ظروفها الاستفادة القصوى، ثلاثون يوماً من الاستغلال ورفع الأسعار والتحكم فى المواطنين بكل الأشكال هى لذتهم فى الحظر الذى وضعوا أنفسهم من عشاقه، لما يدخله عليهم من سبوبة "بما يرضى الله والوطن"، بينهم وبين أنفسهم مقتنعون بأن التجارة شطارة، وأن الفهلوة تسلك فى الحديد، ولو جالك الحظر ما تخافش منه أدخل عليه بقلب جامد، حبه وأعشقه واستغله قدر المستطاع فالحياة فرص وفرصة حظر التجول لا تأتى فى العمر مرتين.
لكل حظر عشاقه..
"الحظر" فى مصلحة الموظفين والبقالين..وكل زوجة بتحلم جوزها يرجع بدرى
الجمعة، 23 أغسطس 2013 01:09 ص
صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة