رحلة إلى أعماق الصحراء فى سيناء كانت بالنسبة لى مثل رحلة فى آلة الزمن، إنتقلت بها من عالمنا المعاصر إلى عالم جميل، مفردات جمال الطبيعة والبساطة والحياة بالفطرة، بعيدا عن صخب الحياة المدنية، فقط أنت والأرض والسماء والجبال وما حولك من كائنات حية، منها الأليف، والمفترض أيضا المفترس المخيف، ولكن فى هذا المكان يوجد تناغم وصحبة، فيمر الثعلب بجوارك ولا تخشاه، والغريب أنه لم يكن هذا حالى وحدى ولكن حال الأطفال أيضا.
فجمال هذه الرحلة لم يكن فى فخامة المكان أو روعة الأجواء، ولكن كان لها سحرها الخاص، كأن الجبال أحبتنا فاغدقت علينا بنوع من الترحاب والألفة، وإحتضنتنا بمزيج من الحنان والراحة، وغطتنا السماء الرحبة بمزيد من مشاعر الرحابة والوسع والتألق والبهجة، وانجذبنا إلى حجر الأرض كما يرتمى الطفل فى حجر أمه ليجد الراحة والطمأنينة.
ولم أكن أدرك أننا فى مصر نمتلك هذا التنوع الرائع من أنواع السياحة، وأن السياحة لا تقتصر على الآثار والشواطىء والنيل فقط، ولكن نملك هذا النوع من السياحة الترفيهية فى الصحراء، فهو كنز له سحره الخاص، وعلمت أننى ما زلت أجهل عن بلادى الكثير، وكانت هذه الرحلة خطوة فى استكشاف مصر برؤية جديدة بالنسبة لى.
وكان مرشدى فى هذه الرحلة الشيخ عتيق، وهذا لقبه، ولكنه شاب سيناوى بدوى، من قبيلة المزينة من جنوب سيناء، مواليد 1979، شاب نحيل بسام لبق الحديث، مع أنه كما قال لم يتعلم، ولكن وجدت فيه حكمة الحكماء و فطنة لم أجدها فى كثير من الحاصلين على أعلى الدرجات العلمية، ومعه الشيخ صالح، وهو مالك العمل، ومعاونيه منهم الشيخ أحمد.
وبدأ الشيخ عتيق يتحدث بلهجته البدوية عن حياة أجداده فى الصحراء ومع القبائل فى الوديان، بمقولة جده عن الحب "لم يعد الحب كما كان ولا القلوب كما كانت"، وكيف أن الحب اختلف من زمن الجد إلى زمن الحفيد، فكل ما كان يحتاجه البدوى ليحيا فى الصحراء جمله وعشاءه وقوت يومه، فبذلك يكون ملك الدنيا وما فيها، فكان يأكل ما تصنعه يديه، ويعيش مع الطبيعة فى الوديان للقرب من الآبار، ما أجمل المياه التى يمكن أن يشربها الإنسان، واستطرد يحكى عن اشتغال الأجداد بالصيد والرعى، وكيف كانت علاقة البدو الكبار بالصحراء وبالطبيعة، فكان البدوى يستطيع أن يحمى نفسه وعائلته والتداوى والشفاء بالوصفات الطبيعية والأعشاب، وكان الأجداد مهرة فى تتبع الأثر، فكان لديهم قدرة فوتوغرافية على حفظ أثر الأقدام، فإذا رأى البدوى الأثر مرة واحدة فى حياته يستطيع أن يميزه بعد مرور عشرات السنين، وسألته هل تعلمت مهارة الأثر من الكبار؟، قال: القليل منها، فنحن الشباب تلهينا الحياة بما فيها من مدنية، فمنذ اشتغال البدو بالسياحة أصبحنا نلهث وراء المادة.
وانتقل الحديث إلى الشيخ أحمد، وهو شاب سيناوى من شمال سيناء، وبدأ فى الحديث عن أن السياحة بعد الثورة دخلت فى ركود، وأكد فى حديثه أن البدو من أكثر الفئات المصرية سعادة بالثورة، وذلك لأنهم ظلموا كثيرا من أمن الدولة، وأن الحكومة كانت تعاملهم على إنهم غرباء، وكيف كان لا يستطيع الشمالى أن يدخل شرم الشيخ إلا بتصريح أو يرحل فى البوكس، وأضاف إنه اضطر أن يغير بطاقته إلى جنوب سيناء حتى يستطيع أن "يأكل عيش" على حد قوله.
وقاطعه الشيخ عتيق، بقوله: إنه بعد الثورة تغيرت أشياء كثيرة، وظهرت أشياء أكثر، واتضحت كذبة ما كان يقال عن أن الضربات والتفجيرات التى كانت تحدث وتتسبب فى وقف حالنا، وكنا نحن أهل الجنوب نلقى باللوم على أهل شمال سيناء نظرا لما كانت تقول الحكومة لنا أنهم من قاموا بالتفجيرات، فظهرت حقيقة الفتنة بين أهل شمال سيناء وجنوبها.
ورد عليه الشيخ أحمد، قائلا: إن أهل الشمال ظلموا كثيرا، واعتقل منهم الكثير، أما الآن تغير الحال.
وجدت نفسى أمام نماذج لشخصيات مدركة لكل مجريات أمور البلد، بوعى تام وبنضوج فكرى، تؤهل صاحبها أن يكون رأيه ورؤيته الخاصة به وكأى مواطن مصرى.
سألت الشيخ أحمد، ما هو مطلبك كسيناوى؟، فرد بتلقائية وببساطة: "الأمن والأمان"، نحن نريد أن نعمل و"نأكل عيش" لنجعل الحياة أفضل، ونريد من يساعدنا على ذلك.
استمعت إليهم كأنى أرى سيناء على الخريطة لأول مرة، وألمس ترابها الحقيقى لأتعرف عليه، فوجهت لهما السؤال مباشرة بدون تردد وانطلق سؤالى عما نسمعه عن بدو سيناء، وكونهم لا ينتمون إلى مصر، وما يتردد عن مخطط لتقسيم مصر وانفصال قبائل بدو سينا عن مصر، رد الشيخ عتيق بدون تردد: "لمن ننتمى إذن؟"، ولو ننتمى لبلد أخرى فلنرحل إلى هذه البلد، هذه أرضنا، و نحن البدو أكثر ما يعنينا فى الحياة (الأرض والعرض)، فلم نتركها وقت احتلال إسرائيل لها لفترة ثلاثة عشر عام، ولن نتركها لأى سبب.. واستطرد مؤكدا: "إن انتمائنا لمصر، فمصر من سيناء، وسيناء من مصر"؛ قالها وهو يمسك التراب بيده، ووضع يده على الأرض كأنه يوجه كلماته إلى الأرض، وهى تسمعه وتشعر به.
وحينها بدأت أشعر أنى واحدة منهم، وكأنه قرأ أفكارى وقال: "نحن نختلف عنكم فى اللهجة فأصولنا من السعودية، ونلبس مثلهم، ولكننا نعيش على أرض مصر، ونأكل من خيراتها، وبيوتنا فيها وعائلاتنا هنا، فكيف لا ننتمى إلى مصر؟، ولكن الحكومة هى التى كانت تعاملنا كالغرباء وكالخونة، تخشى على الأرض منا حتى لم نكن نستطيع امتلاك أراضينا، ولا يستطيع أحد منا أن يدخل كلية الشرطة أو الحربية، وكيف هذا ونحن حماة أرض سيناء وبيننا مجاهدين سيناء؟، واستطرد متوجها للشيخ صالح وقال خالى الشيخ صالح من مجاهدين سيناء، والشيخ موسى سليمان، وكثير منهم حاصلين على نقطة امتياز من رئيس الجمهورية، وما زال الكثير من مجاهدين سيناء فى المعتقلات الإسرائيلية حتى هذه اللحظة."
تشجعت فى الحديث وذهبت إلى مناطق شائكة وسألته عن الأسلحة التى يمتلكونها، وعن تجارة البدو للمخدرات، وقال: "نعم نمتلك السلاح، ولكن لا نتجول به، وفى لحظة الحاجة نستطيع جلبه فى دقائق معدودة، وذلك لنحمى أنفسنا وممتلكاتنا، فبعد الثورة انتشرت البلطجة فى كل أرجاء مصر، ونحن البدو من حمينا شرم الشيخ، أما عن تجارة المخدرات ففى كل المحافظات والمدن هناك تجارة للمخدرات، وليس فى سيناء فقط، وتنتشر عندنا فى حى النور".
وعند هذا الحد شعرت بنوع من التوتر فى الحديث فانتقلت إلى نقطة أخرى وهى تعليم البنات، وخروج المرأة إلى العمل من بدو سيناء كى أخفف حدة النقاش، فابتسم وقال: "عندنا سيدات بدو محاميات ومدرسات، ولكن ما زلنا نحافظ على عزلة المرأة وعدم الإختلاط، والمشكلة التى تواجه البنات فى التعليم أنه لا يوجد جامعات هنا، وإذا أرادت البنت أن تستكمل تعليمها يجب أن تسافر، وذلك من أسباب عدم استكمال الدراسة للبنات، ولكن هناك معهد فى الشمال".
ونظر إلى السماء و استطرد: "ما زلنا فى سيناء نحتاج للكثير من الخدمات كى نعيش فى راحة؛ وهنا تدخل الشيخ صالح فى الحديث قائلا: "نحتاج للمرافق والخدمات من الكهرباء و المياه"، ثم قال: "أما الوحدة الصحية فهى (زى قلتها)".
وعند ذكره جانب الصحة تذكرت ما قاله أحد الأصدقاء عن سماعة أن البدو يمدحون فى الإسرائيليين، لأنهم كانوا يعالجونهم بجودة وينقلوهم إلى مستشفياتهم للعلاج، وبالأخص عند ولادة طفل كانوا يرسلون طبيب خاص ليأخذ عينات للدم وبصمة لرجل المولود، وقال: "هذا من زمن و كانوا الكبار يذهبون للعلاج فى تل أبيب، وأضاف أن البدو معفيين فى مستشفى شرم الشيح الدولى الآن من مصاريف العلاج، و لكننا نريد ونحتاج المزيد من الخدمات، فسيناء تعطى لمصر الكثير، فأين نحن من هذه الخيرات؟، ولا يوجد فى أرضنا المرافق والخدمات الأساسية.
وانتبهت من هذا الحديث على رائحة خبيز، فوجدت الشباب يخبزون العيش البدوى على الصاج فى وسط الصحراء، وبدأت مراسم العشاء البدوى بما يحمله من نكهة و مذاق خاص لأرض مصر، ونفس أهلها الكرام الطيابة، وحينها أدركت معنى المقولة أن "للسفر فوائد" ولكنها تتجاوز وتتعدى السبعة بكثير.
رانيا الماريا تكتب: رحلة مع حكاوى الشيخ عتيق السيناوى
الخميس، 25 أبريل 2013 11:16 ص