جنازير قسم العرب التفت حول الأبواب لتعلن عن عصيان المدينة الباسلة.. خطوات إلى الأمام ويقع قلب هذه المدينة الذى توقف عن النبض.. هنا الشارع التجارى ببورسعيد.. أسفل علم أسود بجانب علم مصر تخطو لتجد نفسك بداخل مدينه أشباح تسكنها أكوام الملابس.. الأتربة تغطى أرض الشارع البائس.. وجوه البائعين هائمة فى عالم مضى وقت كان من الصعب أن ترى قدميك وسط تزايد الزحام أو تلتقط أنفاسك التى أنهكها صخب المتهافتين على البضائع من أرجاء مصر الواسعة.. عيون الشهداء تراقب الموقف من أعلى مخترقة نطاق صورها المتناثرة فى كل مكان لتضفى إلى دنيا الأشباح مزيدا من الحزن الذى خيم على المكان.
التجارى ومجموعة الشوارع من حوله مثل الحميدى شكلوا حياة البشر فى هذه المدينة، وربما فى مصر بالكامل خلال مرحلة من مراحل تاريخنا القريب، هكذا يحكى أصحابه وهم يروون عن قصة هذا الشارع الذى حول اقتصاد بورسعيد إلى ثالث أقوى اقتصاد فى مصر عقب القاهرة والإسكندرية لسنوات طويلة قبل أن يصبح مدينة أشباح.
دوى قنبلة هز المدينة بالكامل، سنواته الأربع لم تستوعب مصدر هذا الصوت، حمله أهله على الفور وتركوا شارعهم الهادئ للمرة الأولى هاربين نحو عزبة الشال الصغيرة على حدود المنصورة، قضى 6 سنوات لم يستوعب أسبابهم وقتها، فقط سمع كلمة الهجرة والعدوان الثلاثى على لسان أبيه، عاد بعدها إلى أرض مدينتهم، وسنوات قليلة وجدها تتحول إلى منطقة حرة كمكافئة له على سنوات الغربة، نفس هذا الشارع الذى يسكن فيه أصبح مقصد كل سكان المحروسة.. حمل سنواته الصغيرة فوق قدميه وذهب سريعا نحو أحد المستوردين ليحضر كارتونه صغيره معبئة بالملابس وعاد بنفس السرعة ليقف أسفل منزلة.. ساعات قليلة وكانت قد بيعت بأكملها.. ازدادت سنوات العمر ومعها مساحة الكارتونة لتصحب فرشه وهكذا فعل أصدقائه من حوله.. وهكذا تكون السوق التجارى بمحلاته الضخمة، وتحول إلى أكبر سوق مفتوح فى مصر قبل رحيل الرئيس أنور السادات، ليبدأ عصر مبارك ثم إلغاء المنطقة الحرة ولم يبق له سوى بعض الفتات.. اكتمل الأمر بمذبحة لفت الأغلال حول شارعه والمدينة بأكملها لسنوات قادمة.
خلف أكوام الملابس التى مل من ترتيبها كان يحكى الحاج عادل قصته وقصة السوق التجارى ومدينه بورسعيد.. هو ولد بهذا الشارع التجارى قبل 61 عاما.. وقضى فيه عمرة بالكامل.. يلخص قصته فى ثلاث كلمات بلغه البيع الساحلية التى لم يعرف غيرها ويقول "أحنا حكاية هجره، ونعيم، وجحيم".
إلى الجوار يقف عم على.. يحمل فوق طاولته بقايا 50 عاما قضاهم على هذه الرقعة الصغيرة من الدنيا.. من خلفها ينظر نحو أبواب قسم العرب المغلقة فى نهاية الشارع وهو يتذكر وقت كان لا يوجد شخص يجرؤ على كسر إشارة مرور فى الطريق.. بضاعته المتراكمة تخبر بعصور الكساد التى حملها لهم مبارك خلال ثلاثين عام أنهوا كلمة المنطقة الحرة.. يقول عم على أن الثورة أزالت عصر مبارك وتوقع بعدها الخير ليجدها تحمل بين أحداثها المشتعلة مباراة كرة قدم أنهت ما تبقى لدية ويقول "محدش فى مصر شاف ظلم قد اللى شفناه هنا أكل عيشنا وقف وأحسن شبابنا ماتوا، ومحدش حتى فكر يعزينا".
ممرات التجارى والشوارع المحيط به المتداخلة تضع أمامك كل ما يمكن أن تتخيله.. تخرج من بين سوق الملابس، لتقابل السيارات الخشبية لسوق الأسماك، ومنها إلى طاولات سوق الخضار، وحتى فرشات البالة.. شوارع طويلة لا تسمع فيها سوى عبور رياح البحر بين البضائع الراكدة.. كلمات لتطيب الخاطر.. وحق أبنائهم.. وعودة المنطقة الحرة.. وإيقاف التهريب.. أربعة طلبات لا يتغيرون فوق ألسنة الجميع فى السوق المهجور يمثلون قبله الحياة لهذا القلب الذى توقف عن النبض.
الشارع التجارى.. رحلة من الهجرة إلى الازدهار تنتهى "بمدينة للأشباح"
الخميس، 21 مارس 2013 09:46 م