حكى لى صديقى الناشط السياسى عن قائد التنظيم الذى ينتمى إليه، واصفا إياه بأنه رجل شديد الاستبداد.. محبوب جدا..!
سألته: كيف ذلك؟! فقال لى: يُقنع عبيده بأنهم أحرار وبأنهم اختاروا، وهو الآمر الناهى فى البداية والنهاية..يفهم عقلية الذين يعمل معهم جيدا، ولديه قدر كبير من المعلومات والبيانات والمفاتيح التى يفتح بها عقل كل إنسان من بابه المخصوص، ويتحكم تماما فى المدخلات التى يبنى الناس على أساسها اختياراتهم، ثم يُقرر، ويوجه عن بُعد.. ويترك للناس الحرية ليختاروا ما قرره هو.
سألته: وماذا يحدث إذا لم يختاروا ما اختاره هو؟ قال لى: لم يحدث هذا قط إلا نادرا جدا، وحتى فى هذه الحالة فإنه يستطيع تدارك الأمور بعدها من خلال إتقانه الشديد لثُغرات قانون الديمقراطية، فهو محامٍ عُقر، ومعه فريق كبير يدين له بالولاء، صنعه بالتربيطات والمصالح، يعملون فى كل مكان من خلال فرق أخرى، تعمل تحتها فرق أخرى كثيرة، وكثيرا ما يتمكن من إقناع كل فرد على حدة بأن الأغلبية سوف تذهب فى اتجاه معين، ربما يكون ذلك غير حقيقى.. ولكن معظم الناس يميلون إلى تصديق ما يشعرون بأن عددا كبيرا حولهم يصدقه، وبالتراكم تصبح الأكاذيب حقائق، وتتحول الحقائق إلى أمور منكرة، كما أنه يجيد صناعة الفزاعات التى تجبر الناس خوفا ورهبةً على الاختيار بالاستبعاد، حيث لا يكون أمامهم إلا اختيار وحيد غير مقبول، فى مواجهة اختيارات أخرى شديدة البشاعة ومرفوضة رفضا تاما هو الذى فرضها، وعندما يتحكم فى الاختيارات، ويضع الناس أمام هذه المعادلة يختارون ما لا يقبلونه دائما بأريحية شديدة..!
وتلك هى بعض التكنيكات الشهيرة لأنظمة الديمقراطيات الموجهة.. أن تملك الدولة أو النظام أو التنظيم أدوات بناء المعرفة العامة بشكل محكم، وأدوات تشكيل دائرة الاختيار، فتوجه الرأى العام بشكل غير مباشر، وتترك للناس الحرية الصورية ليختاروا ما أقنعتهم به هذه الأدوات المنظمة.
وفى اعتقادى أنه: فى نظام حكم ما مثالى يوكل الأمر دائما إلى أهله، وفى نظام حكم ما ديمقراطى يوكل الأمر دائما إلى من يختاره الناس سواء كان أهله أو لم يكن..! وبغض النظر عن الأسباب والقناعات التى وقفت وراء الاختيارات، ولذلك فالديمقراطية ليست نظاما مثاليا، بل إن لها عيوبا خطيرة، وأمراضا شائعة منتشرة فى العالم كله.. ومن أخطر
هذه العيوب أن الديمقراطية عادةً قابلة للتوجيه!
تنشأ الديمقراطيات الموجهة فى الغالب فى دول الاستبداد، وفى جمهوريات الموز التى تتبع أنظمة الحكم فيها بعض مراكز القوى العالمية، وإمكانية توجيه الديمقراطية هى إحدى أهم الأسباب التى تجعل الولايات المتحدة مثلا تتحدث بقلب مطمئن عن الانتخابات فى أعقاب الانقلابات العسكرية التى تصطنعها على عينها هنا أو هناك، وهى التطور الطبيعى للاستبداد العسكرى المباشر أو الديكتاتوريات الكلاسيكية عموما التى أثبتت فشلها.
عندما يمتلك النظام رأس المال والإعلام خصوصا، ويتفشى فى الأمة الفقر والجهل وبناء الاختيار على معايير الثقة وليس على معايير موضوعية عقلانية، يسهل جدا توجيه الديمقراطية، وصناعة "استبداد متنكر" كالذى يحكمنا حاليا، ويحكم الكثير من دول العالم!
الديمقراطية فى رأى الحالمين تُصحح أوضاعها باستمرار، لكن عندما لا تكون الديمقراطية حرة، لا تستطيع أن تصحح أوضاعها بسهولة، وربما لا تستطيع تصحيح الأوضاع أبدا، فتصبح الديمقراطية فى حد ذاتها مشكلة أحيانا، نظرا لأنها تأتى بمستبدين منتخبين، يواجهون الناس بشرعية الناس، والناس كلهم خصوم لها، وخاضعون إليها، وعاجزون عن فعل أى شىء.
لكى تعلم.. هل الديمقراطية فى بلدك موجهة أم لا، يمكنك أن تسأل نفسك بعض الأسئلة السهلة، وهذه بعض الاقتراحات مثلا:
- هل لديكم فى بلدكم وزارة للإعلام؟!
- هل لديكم صحف وقنوات ومنابر إعلامية مملوكة للدولة أو لرأس المال السياسى تتكلم فى السياسة بانتظام؟
- هل تعطى المنابر الإعلامية المملوكة للدولة أو لرأس المال السياسى فرصا عادلة لجميع المنابر السياسية الموجودة فى البلد؟
- هل يبنى الناس من حولك آراءهم السياسية عادةً على التحليل والاستقراء والاستدلال وجمع المعلومات بأنفسهم ومعالجتها بحرية؟ أم تساعدهم وسائل الإعلام ورأس المال على تشكيل اختياراتهم وتزودهم بمعلومات معينة وتحليلات معينة؟ وإلى أى حد يحدث هذا من حولك؟!
إجابات هذه الأسئلة، وغيرها فى المسار نفسه تعطيك الإجابة التفصيلة عن السؤال: هل تعيش فى إحدى الجمهوريات موجهة الديمقراطية أم لا؟!
والديمقراطيات الموجهة فى رأيى أسوأ من الديكتاتوريات الصريحة، لأنها فى جوهرها وعمقها تظل ديكتاتوريات، تستعمل الديمقراطية فقط كعنوان براق، ووسيلة لابتزاز الناس وإجبارهم على الخضوع للأنظمة المستبدة الفاسدة بسيف الشرعية.. وهذا التنكر المتقن مع الأسف يُطيل عمر النظام المستبد ويسمح له بالتوغل والتمدد فى عمق الأمة، ويصعب عملية إسقاطه، ويحمل بذرة الانشقاق دائما عند الدعوة لأى تمرد على الفقر والقهر والظلام والرجعية.
ولإجهاض الديمقراطية الموجهة، هذه بعض الإجراءات المقترحة:
1. محو الأمية أهليا وعدم ترك هذه المهمة للدولة وحدها، والعمل على رفع الوعى العام أهليا، وتشجيع الناس على اتخاذ قراراتها بحرية وإثارة التحسس الشديد لدى الناس من التأثير على قراراتهم وأفكارهم واختياراتهم.
2. العمل على إلغاء وزارات الإرشاد والإعلام والثقافة والوعى الجماهيرى، وسائر هذه المؤسسات الحفرية هذه كلها فورا، وإيقاف المطابع الحكومية والقنوات الحكومية والصحف والمجلات الحكومية كلها، أو خصخصتها بشكل عشوائى ومتنوع، وليس لصالح الاحتكار.
3. محاصرة رأس المال السياسى بمنظومة قوانين شديدة الصرامة لجعل الإعلام والصحافة محايدين قدر الإمكان أمام القضايا السياسية.
4. تعديل قوانين العمل السياسى عموما لمساعدة المؤسسات السياسية على تمويل أنشطتها بطرق أكثر تعددا وانفتاحا تسمح لها بالاستغناء عن سيطرة رأس المال الموجه.
5. إلزام الدولة باتخاذ مواقف محايدة قدر الإمكان من مسائل الدين والعرق واللون والجنس وسائر عناصر التمييز الإنسانى.
والسؤال الأهم هنا هو: كيف يمكن فرض ذلك كله فى نظام ديمقراطى موجه؟
الإجابة ببساطة: فضح الديمقراطية الموجهة، والاحتجاج عليها بصفتها هذه صراحةً، وعدم الدفاع عن شرعيتها المزيفة أبدا.
هناك أشياء قابلة للشراء، وأشياء غير قابلة للشراء، وحكم الشعب لا يجب أن يكون إحدى هذه الأشياء التى تُعرض فى المحلات وتظهر إعلانات بيعها لمن يدفع أكثر فى التليفزيون وفى فواصل المسلسلات والأفلام!
الثورة هى الحل.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
محمد أبوعوف
صح جدا
متفق معاك تماما تحليلك رائع للأمر
استمر
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
صديقك يعتمد على الاميين والجهلاء ومسلوبى الاراده
بدون
عدد الردود 0
بواسطة:
هاني عبدالراضي
تحليل رائع