نحن نتقن فن الحكم على الآخرين، ويسهل علينا توزيع الاتهامات، بل نتعدى بتنفيذ العقاب بدون هوادة أو رحمة، فما أسهل من أن تنظر عن بعد وتقفز إلى نتائج تستخلصها على هواك، وتنصب نفسك القاضى والجلاد.. فحكمنا على الغير يتطلب الكثير، فهو ليس بالأمر اليسير، فمن الممكن بتهاونك أن تقترف ظلماً كبيراً بحق من تحكم عليه، وبالتالى تظلم نفسك بإعطائها حقا ليس من حقها، بالإضافة إلى أن من يحكم على شىء أو شخص يجب أن يكون الأفضل أو الأعلم أو الأقدر فى المجال الذى يصدر الحكم فيه، فكثيرا ما نحكم على أخلاق الآخرين ونحن فى أمس الحاجة إلى هذا الحكم على أخلاقنا، وكثيرا ما نحكم على علم الآخرين ونحن لا نضاهيهم فى العلم من شىء.
فنحن نحكم على السلوك الناتج عن محصلات مختلفة، ولا نضع فى اعتبارنا غير هذا السلوك بدون تفاصيل كثيرة نحتاجها، حتى يصدر الحكم صحيحا، وبالتالى يكون الحكم غير مكتمل الأركان، فالسلوك هو الصورة الظاهرة التى تخفى وراءها كثيرا من التفاصيل، فالسلوك ينتج بسبب مشاعر تكونت إما إيجابية أو سلبية نتيجة لحدث معين أدركه العقل وحَوّلَه لأفكار، والتى بدورها تفتح ملفات من نفس نوعية الحدث الذى تَعرّض له الإنسان، وهذه الملفات تستدعى المشاعر المصاحبة لهاـ والتى ينتج عنها ردود الأفعال فى أشكال سلوكية.
ولذلك يجب أن ندرك جيداً جميع أبعاد وجوانب وظروف الشخص الذى نحكم عليه، لأن السلوك لا يعطى صورة كاملة عن حقيقة الأمور، فيمكن سلوك معين يقبل فى ظروف اعتيادية، ويمكن أن يعتبر سلوكا شاذا فى ظروف أخرى.
فمن الطبيعى أن يحتفل الشخص ويرقص ويغنى فى الأفراح، أما إذا فعل ذلك فى اجتماع عمل أو محاضرة علمية سيختلف الحكم على السلوك نفسه، وبالتالى على الشخص... ولذلك الحكم على السلوك منفصل عن الظروف المحيطة به خطأ فاحش، وكذلك اختلاف الثقافات والحضارات والخلفيات الثقافية والأخلاقية تنتج عنها اختلاف فى السلوك، فهناك دول تتقبل فى الولائم الرسمية الأكل باليد، وهناك دول أخرى تعتبره سلوك مشين.
وحتى لا تدخل فى نفق الحكم الخاطئ على الآخرين، يجب أن تراعى عدم التحيز، فلا تعتمد على الانطباع الأول أبدا، ولا تحكم على الشخص بحكم الآخرين عليه، لأنهم يروه من زاويتهم الخاصة وبمشاعرهم، والحكم على الآخر دون وضع اعتبار لطبيعة شخصيته وخلفيته الأسرية والاجتماعية، وظروف تنشئته خطأ كبير، فالإنسان أسير شخصيته وما نشأ عليه، ولا تحكم عليه من خلال معاملته للآخرين فقد يكون بينه وبين الشخص الآخر ما يوجب معاملته بطريقة أنت ترفضها.
ولا تحكم على الآخر من خلال دور معين أو وظيفة تجبره أن يتصرف بنمط معين يمكن أن يخالف طبيعته، ولا تحكم على شخص من خلال انتمائه بحكمك على الفئة التى ينتمى إليها، فلا تعمم حكمك من خلال خبراتك السابقة السلبية مثلا مع طبيب، فتعمم أن كل الأطباء أشباه ذلك الطبيب التى مررت معه بتجربة سلبية.
فمن منا يستطيع أن يعرف كل هذه التفاصيل حتى يتسنى له الحكم على الآخر، فالقاضى يحكم لأن أمامه قضية مكتملة الأركان والتفاصيل، وعنده مرجعية تشريعية وقوانين يحكم من خلالها، ولكن نحن كيف لنا أن نحكم بدون معرفة كاملة ومراعاة لكامل الظروف... ألم يحكم عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - بوقف إقامة حد السرقة فى عام المجاعة قياسا على قوله عز وجل: )فمن اضطر فى مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم (3)( (المائدة). حيث إن السارق قد سرق لضرورة ملحة، وليس من أجل السرقة، فهل هذا معناه إباحة السرقة؟؟؟
فلا تحكم على الآخرين فأنت لا تعرف ما يخالجهم من نية، ولا ما يحيطهم من ظروف ولا ما يحركهم من دوافع، ولا حتى تعرف لو كنت أنت مكانهم كيف ستتصرف؟، هل مثلهم أم بطريقة مختلفة؟؟؟ فاترك الحكم لله على الآخر، واحكم أنت على نفسك فأنت أكثر دراية بتفاصيلك التى تمكنك من الحكم على نفسك، وأعمل بحكمك.
رانيا المارية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة