فجأة وبدون مقدمات انقلبت رؤية الولايات المتحدة الأمريكية تجاه 30 يونيو رأسا على عقب، وارتبط ذلك بعدة مؤشرات رئيسية أولها التقارب المصرى الروسى، وكان وفد شعبى مصرى قد زار روسيا منذ أسبوعين، وعاد الوفد وعلى وقع عودته جاء وفد روسى شعبى إلى مصر، وبعيداً عن كلمات وتصريحات أعضاء الوفد (أغلبهم ليس له خبرة مسبقة بالموضوع)، ولكن لفهم ما حدث ويحدث، لابد أن نذكر بأن الفريق أحمد شفيق المرشح الرئاسى السابق، كان قد زار روسيا من قبل، وإذا نظرنا إلى مقدمة الوفد سنجد المستشار يحيى قدرى رئيس حزب الحركة الوطنية، الذى يتزعمه من المنفى الجنرال شفيق، ولمزيد من التأمل يرجى أن نتوقف أيضاً أمام السفير أحمد العرابى رئيس حزب المؤتمر (الذى كان يتزعمة د. عمرو موسى) وإذا جمعنا الحزبين معاً فى معادلة: الحركة الوطنية + المؤتمر = الحزب الوطنى! أظن الأمور وضحت؟
وعلى أثر زيارة الوفد المصرى، زار مصر وزير الخارجية الروسى «سيرجى لافروف» ووزير الدفاع «سيرجى سويجو»، فى دلالة واضحة لأن كل شىء مرتب، وأيضاً لا ننسى الوفد الشعبى الروسى الذى جاء لرد زيارة الوفد الشعبى المصرى، وهكذا بدأت العملية تأخذ مأخذ الجد!
نعود للجنرال شفيق وأحلام الرئاسة «المشروعة»، ومحاولة ممارسة دور الرئيس «الظل»، فقد كشفت زيارتة السابق عن آثار غرائز الدولة العظمى السابقة (الاتحاد السوفيتى السابق)، كما أن وجود رئيسى الحزبين الحركة الوطنية والمؤتمر له أكثر من دلالة:
أولاً: التقارب بينهما يؤدى إلى الرغبة فى الاندماج مثلما تحاول بعض الأحزاب المدنية (المصريين الأحرار والمصرى الديمقراطى وتوابعهما)، وكلا الحزبين (الحركة الوطنية والمؤتمر) فى حالة الاندماج يكملان جسد نظام مبارك القديم، ولمزيد من الفهم، دعونا نتتبع تصريحا مهما قاله «ليونيد ايسايف» رئيس وفد الدبلوماسة الشعبية الروسية، لإذاعة صوت روسيا: (بعد إسقاط الرئيس مرسى، الذى لم يكن نهجه يروق لنا، ومن جهة أخرى، لم تجر حتى الآن انتخابات جديدة، وبودنا أن نلتقى مع الذين يشاركون فيها، وأعتقد أنهم بحاجة أيضاً للقاء معنا)، هكذا يفصح رئيس الوفد الشعبى الروسى (صديق الجنرال شفيق) أن أهم الأهداف هو تقارب الروس مع من تم إيهام الروس على أنهم الحكام الجدد لمصر! أى أن أجهزة نظام الرئيس الأسبق مبارك، بقيادة الجنرال شفيق، تريد أن يستفيد من اللقاءات المصرية الروسية، بل يردد مقربون من الجنرال شفيق أن الصفقات التى ستبرم بين الطرفين سوف تقوم بتسديد قيمتها الإمارات العربية، وأكد للكاتب ذلك المحلل السياسى الروسى «يفجينى سفروف» ذلك، هذا على المستوى الداخلى الذى لم يتعرض له أحد فى تحليل الزيارات المتبادل، ترى ماذا عن المستوى الخارجى والإقليمى؟
موسكو لا تعرف الدموع
بعد أن وضعنا أحد أهم معالم الزيارات، ومحاولة استقواء أطراف من النظام القديم بها، لتقوية موقفه فى الانتخابات السابقة، نعرج إلى علاقة تلك الزيارات المتبادلة مع الوضع الإقليمى، كلنا نلاحظ العلاقات الاستراتيجية السعودية المصرية من جهة، وتراجع العلاقات الأمريكية السعودية من جهة أخرى، وبذلك تكونت معادلة إقليمية أخرى: السعودية + مصر= موقف من أمريكا، وإذا تأملنا أن الرئيس المؤقت المستشار عدلى منصور، قد أجرى جولة خليجية سعودية مؤخراً، فى مؤشر للتنسيق بينهما لتحسين العلاقات مع روسيا، خاصة بعد إعلان السعودية رسميا رفضها لمقعد مجلس الأمن الدولى، وانتقادها غير المسبوق للولايات المتحدة، وسياساتها الدولية أى أننا أمام محور مصرى سعودى خليجى يسعى للتقارب مع روسيا فى إشارة للولايات المتحدة الأمريكية، على أن الوضع فى المنطقة قد ينقلب رأساً على عقب، ولمزيد من التوضيح نعود إلى «ليونيد ايسايف» وردا على سؤال له من إذاعة صوت موسكو، حول أثر زيارة الوفد الشعبى الروسى على المنطقة العربية والإقليم قال: (إن الأمزجة المعادية للأمريكيين قوية فى المجتمع المصرى والعربى، فى حين أن روسيا دولة قوية قادرة على الدفاع عن الأنظمة الصديقة لها فى العالم العربى…)، ومن ثم فمن الواضح جداً أن بوابة مصر ستكون المدخل الروسى للخليج والسعودية، فهل يتحقق ذلك؟
أمريكا تشيد بخارطة الطريق!
وسط التهليل والتصفيق للزيارات، وعودة الخطاب الإعلامى الستيناتى على طريقة «زغردتى ياللى مانتش غرمانة»، نسى الجميع الربط بين زيارة وزير الخارجية الأمريكى كيرى لمصر عشية الزيارات الروسية، وتأييده للمرة الأولى (للحكومة المؤقتة لإحلال الديمقراطية فى مصر)، وأضاف: كيرى فى نفاق غير مسبوق: (إن خارطة الطريق تم تنفيذها بشكل جيد بحسب ما نراه) خطاب أمريكى جديد، بل ووصل التراجع الأمريكى تجاه مصر إلى حد قول كيرى: (إن العلاقات بين الولايات المتحدة ومصر يجب ألا تحدها مساعدات بل شراكة سياسية واقتصادية) ووصل الغزل إلى حد القول: (إن الرئيس أوباما يبذل جهودا كبيرة للغاية للتأكد من أننا لا نضر بالعلاقات المصرية الأمريكية) ويختم كيرى توسلاته المذهلة بالقول: (إننا نيابة عن الرئيس أوباما سندخل فى الحوار الاستراتيجى، فمصر كانت قائدة فى المنطقة حتى قبل وجود الولايات المتحدة)! هكذا تراجعت الولايات المتحدة «وجابت جاز» قبل أى تقارب حقيقى بين روسيا ومصر.
على الجانب الآخر، اعتبرت «الواشنطن بوست» أن التقارب الروسى المصرى سوف يبعد الديمقراطيين عن الحكم طويلاً إذا ما تحول الأمر إلى خطوات جادة واستراتيجية.
ذلك التحول انتبه إليه فى حينه خبراء الشؤون الأمريكية الروس (لاحظ أن زيارة كيرى سبقت إعلان الإدارة الروسية عن زيارة وزيرى الدفاع والخارجية الروس لمصر بيومين)، ولذلك نشرت وكالة «الإنتر فاكس الروسية» تعليقاً على ما قاله كيرى فى القاهرة، وكتبت بعنوان: «مطلوب تعميق الحوار مع مصر عسكرياً»، وفى ذلك التعليق القصير أكد المعلق ضرورة رفع مستوى الزائرين الروس لمصر من المستوى الشعبى إلى المستوى الرسمى المتقدم، وكتب وزير الخارجية الروسى الأسبق وصديق مصر القديم سيرجى برياماكوف: (علاقاتنا بمصر ليست استراتيجية فحسب بل أزلية ومصر تستحق الكثير) ومنذ ذلك الحين لا يقل التسخين فى الصحافة والإعلام الروسى عن مصر ما ينشر ويبث الآن فى الإعلام المصرى عن روسيا، وكتب عن ثورة 30 يونيو فى الصحافة الروسية أكثر مما كتب عن ثورة أكتوبر الاشتراكية.
لذلك أعتقد أن الروس قبل تصريحات كيرى كانوا يريدون رد زيارة الوفد الشعبى بوفد شعبى، ولكن بعد أن تراجعت الولايات المتحدة ذلك التراجع الملحوظ قرر الدب الروسى إرسال وزيرى الخارجية والدفاع إلى المحروسة، ورفع مستوى التعامل مع مصر من الفريق أحمد شفيق إلى الفريق أول عبدالفتاح السيسى، والدخول إلى مصر من أبوابها بسلام آمنين وليس من الأبواب الخلفية، ويصرح وزير الخارجية الروسى: (نحن ننظر إلى ما يحدث فى مصر ونراه مهما جداً لنا، لأن القاهرة تعمل على القيام بسلسلة خطوات ترمى إلى دفع العملية السياسية قدما على أساس حماية الحكومة والحريات الأساسية للمواطنين بغض النظر عن انتمائهم الاجتماعى أو الطائفى) فى إشارة واضحة ذات دلالة على أن روسيا «الأرثوذكسية» تبرئ الحكومة الحالية مما حدث مع المواطنين المصريين الأقباط من تجاوزات من جهة وترمى إلى العلاقات الأرثوذكسية بين الكنيستين القبطية والروسية من جهة أخرى، ولكن ترى ما هو رد الفعل المصرى الرسمى لكل تلك الرسائل الروسية لمصر؟ الإجابة كانت على لسان السفير بدر عبدالعاطى المتحدث الرسمى للخارجية المصرية: (نفى السفير بدر عبدالعاطى أن يكون هناك استبدال طرف بآخر «يقصد استبدال أمريكا بروسيا»، مؤكداً أن روسيا الاتحادية قوى كبرى ولا يليق أن تكون بديلاً لطرف آخر «يقصد أمريكا»، وأن مصر تتعاون مع روسيا من دافع مكانتها الدولية، ودورها الرئيسى فى الشرق الأوسط، والعلاقات التاريخية العملية التى جمعت بين الشعبين)، فهمتوا حاجة؟
بل نشرت الصحافة الأمريكية، أن الرئيس المؤقت عدلى منصور قد استبق الزيارات الرسمية الروسية برسالة للرئيس الأمريكى أوباما يطالب فيها بحوار استراتيجى مصرى أمريكى!
قصائد الحب الروسية المصرية لن تؤدى للقطيعة
تحت هذا العنوان الطريف كتبت صحيفة «هاآرتس» الإسرائيلية مقالاً، أكدت فيه أن كل ذلك الغزل الروسى المصرى لن يؤدى إلى القطيعة بين مصر وأمريكا، وعزت الصحيفة ذلك إلى أن الفريق أول عبدالفتاح السيسى إذا ما أراد الدخول فى الانتخابات الرئاسية، وإعادة مصر إلى الملعب السياسى الإقليمى سيحتاج إلى ميثاق مع واشنطن وليس فقط مساعدات مالية، وإنما يحتاج إلى أن تكون القاهرة شريكة فى التحركات الاستراتيجية. وربطت هاآرتس بين الزيارات الروسية المصرية المتبادلة وبين تجميد المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر، وأشارت الصحيفة إلى ما تنشره وسائل الإعلام الروسية حول إمكانية شراء مصر للطائرة «ميج 29»، ولكن هاآرتس أكدت أن الجيش المصرى لكى يبدل الأسلحة من أمريكى لروسى يحتاج لسنوات لاستيعاب المصريين للسلاح الروسى، ورغم ذلك التحليل الذى يستبعد التقارب العسكرى المصرى الروسى، إلا أن صحيفة «يديعوت أحرونوت» ذهبت إلى عكس هاآرتس، ونشرت أن زيارة رئيس الاستخبارات الروسى للقاهرة ولقاءات اللواء محمد العصار المسؤول عن التسليح معة تشير إلى أن بوتين قرر مد يد العون إلى السيسى، وأفادت الصحيفة أن التقارب الروسى مع مصر لا يقدر بثمن، وأكدت أن رئيس الوزراء نتنياهو كان قد نصح الرئيس أوباما بعدم تجميد المساعدات العسكرية لمصر لأن ثمن ذلك سيكون غالياً على أمريكا.
الدب والعم سام؟
تبقى بضعة أسئلة جدية: هل سيعود الدب الروسى العودة إلى المياه الدافئة؟ وما التحديات والفرص والمخاطر أمام تلك العودة؟ وما الموقف الأمريكى تجاه ذلك؟
الجنرال الروسى السابق ألكسندر يوشكوف يؤكد أن العالم الجديد لا يدار بطريقة الستينيات الماضية، وأن الخطابات الحماسية لا تحدد مصائر الشعوب، وأن المصالح الروسية الأمريكية فى الشرق الأوسط أكثر من قوية، وأن مصر بلد مهم ولكن المصالح الروسية الأمريكية أهم.
ولا يبتعد كثيراً اللواء السابق طلعت مسلم عن رأى نظيره يوشكوف، ويرى مسلم، أن التقارب المصرى الروسى مرتبط بردود أفعال الولايات المتحدة تجاه مصر، ويضيف مسلم أن أصوات عسكريين أمريكيين كثيرة قد حذرت أوباما من نتائج تجميد المساعدات العسكرية لمصر، وأعتقد أن الاستراتيجيين الأمريكيين يستطيعون التضحية بأوباما من أجل مصر؟
تقسيم عمل إخوانى أمريكى أم خوف أمريكى من الدب الروسى؟
على الجانب الآخر، نشطت المبادرات الإخوانية وتزامنت مع التقارب المصرى الروسى، ويتخلى الإخوان عن مرسى!!، والأخطر أن وزيرين من الحكومة أعلنا عن موافقتهما على مبادرة الإخوان، ناهيك عن أن نائب رئس الوزراء د. زياد بهاء الدين لا يكل ولا يمل من الحديث عن «المصالحة» الوطنية مع الإخوان، إلا أننا فوجئنا الثلاثاء الماضى بتصريحات مهمة منشورة فى صحيفة «واشنطن بوست» للواء محمد فريد التهامى رئيس جهاز المخابرات المصرية، وأعيد نشرها فى بوابة الأهرام فى نفس اليوم أيضاً، وقدمت واشنطن بوست التصريحات قائلة:
تصريحات خاصة أدلى بها اللواء محمد فريد التهامى للكاتب الأمريكى ديفيد اجناتيوس، وأشار اجناتيوس إلى أن التهامى أكد أن تصريحاته تعد أول لقاء صحفى يجريه لتوضيح بعض النقاط الهامة حول نهج المخابرات المصرية، ولفت إلى أن البعض يؤكد أن التهامى واحد من المقربين من السيسى حيث خدما معاً فى جهاز المخابرات الحربية).
ورداً على سؤال: حول ما إذا كانت السلطات المصرية ستسمح لجماعة الإخوان بالانخراط فى العملية السياسية عبر حزب الحرية والعدالة ليجدوا بديلاً عن العنف؟ قال رئيس المخابرات المصرية: (أنه وفقا لخارطة طريق عودة الديمقراطية المدنية إلى مصر، فإنه لن يتم إقصاء أى طرف من العملية السياسية، مرحباً بأى فصيل أياً كان يريد المشاركة فى العملية السياسية).
وفجأة يصرح محمد على بشر بمقترح إجراء استفتاء شعبى على خارطة الطريق، وتزداد الدهشة حينما يتزامن مع ذلك تصريح وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى بأن الإخوان سرقوا ثورة 25 يناير!! ويتحدث عن شباب الثوار ولا حمدين صباحى!! ويرد ابن مرسى وشباب الإخوان بتكذيب محمد على بشر، كل ذلك التسخين يرتبط بعودة الإرهاب والاغتيالات، ترى هل هناك تقسيم أدوار بين الإخوان والراعى الرسمى لهم فى المخابرات المركزية الأمريكية؟ أم أن التقارب الروسى من مصر أزعج البنتاجون؟ أو أن الإخوان يتفاوضون بالرصاص والدم؟
كل تلك التساؤلات سوف تجيب عليها الأحداث فى الأيام القليلة القادمة.
سليمان شفيق يكتب: التقارب المصرى الروسى يشعل المبادرات الأمريكية الإخوانية
السبت، 23 نوفمبر 2013 06:59 ص