تشهد إيطاليا هذه الأيام أزمة سياسية جديدة، تتزامن مع أزمة اقتصادية كبرى تمر بالاقتصاد الإيطالى، والسبب يكمن مجددًا فى رئيس الوزراء السابق، سلفيو بيرلسكونى، الذى استقال خمسة وزراء من حزبه "شعب الحرية" يوم السبت الماضى ليضع ائتلاف رئيس الوزراء الهش، أنريكو ليتا، أمام خيارين كليهما صعب، فإما أن يتم الإعلان عن انتخابات برلمانية مبكرة بعد استشارة رئيس الجمهورية جورجيو نابوليتانو، وإما أن يتم التصويت فى البرلمان على منح الثقة فى حكومة ليتا، وهو الخيار الذى فضله الرئيس ورئيس الوزراء، أملاً فى الحصول على ثقة البرلمان وتجنيب البلاد الوقوع فى أزمة خطيرة.
وتقول بعض الأوساط الإيطالية، والأوروبية، إن بيرلسكونى ينتقم على طريقته الخاصة، وذلك لمنع مجلس الشيوخ من التصويت يوم 4 أكتوبر الجارى على قرار طرده من المجلس بعد الحكم عليه بالسجن لمدة سنة لإدانته فى قضية تهرب ضريبى، وهو ما يشعل أزمة سياسية لم تكن متوقعة حاليًا فى ظل تفاوض الحكومة والأحزاب على الميزانية الإيطالية الجديدة.
ويتزامن توقيت هذه الأزمة السياسية مع بدء إيطاليا جولة جديدة حول أزمة منطقة اليورو، وفى وقت تبلغ فيه خدمة الديون الإيطالية أكثر من 2 تريليون دولار، وتحذير وكالة التصنيف الائتمانى، ستاندراد أند بورز، بخفض التصنيف الإيطالى بمعدل درجة أو أكثر، إذا لم تظهر إيطاليا المؤسسية الجيدة وفعالية الحكم.
رئيس الوزراء، إنريكو ليتا، هدد بالاستقالة إذا لم يحدث تصويت على الثقة فى حكومته خلال الأسبوع القادم، وهو تصويت ربما يمر بصعوبة بالغة فى حالة عدم موافقة أعضاء حزب بيرلسكوني، وهو ما لا يبدو محتملاً إلا إذا تم حل الأزمة بين الطرفين وحزبيهما، شعب الحرية والحزب الديمقراطى، وهو ما يعنى عدم التزام بيرلسكونى بأحكام القانون مرة أخرى للاحتفاظ بمقعده فى مجلس الشيوخ، على الرغم من الحكم عليه فى قضية التحايل الضريبى واتهامه بممارسة الجنس مع قاصر.
ومع ذلك، يبدو أن أجندة بيرلسكونى ربما تكون أكبر من مجرد إنقاذ وضعه الشخصى والسياسى، فوفقًا للمحلل السياسى بموقع "يونايتد برس إنترناشيونال، ربما يكون بيرلسكونى لم ينس الماضى القريب بعد، فقبل ثلاثة أسابيع نشر العضو الإيطالى بالبنك المركزى الأوروبى، لورينزو بينى سماغى، كتابًا نصفه عبارة عن مذكرات شخصية ونصفه الآخر تحليلى، حول أزمة اليورو، ويحمل الكتاب عنوان، "الموت من التقشف"، حيث يروى المسئول الرفيع المستوى ضمن ستة مسئولين قياديين بالبنك الأوروبى قصة أزمة اليورو فى إيطاليا.
ويشير الكتاب إلى أنه فى ذروة الأزمة، وقبل عامين تحديدًا، وحين كان بيرلسكونى رئيس الوزراء الإيطالى، اقترح بيرلسكونى على كل من المستشار الألمانية إنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسى السابق نيكولا ساركوزى، احتمال انسحاب إيطاليا من منطقة اليورو، وهو ما أدى بميركل وساركوزى، وبدعم من المفوضية الأوروبية والبنك المركزى الأوروبى، إلى التخلص من بيرلسكونى، على أن يحل محله فى منصب رئاسة الوزراء المفوض السابق للاتحاد الأوروبى، ماريو مونتي؛ ففى 29 نوفمبر 2011 تم تعيين "مونتي" عضوًا بمجلس الشيوخ الإيطالى مدى الحياة، وفى اليوم التالى تصدى البرلمان الإيطالى لميزانية التقشف التى لم تكن تحظى بشعبية، ليذهب بعد ذلك مباشرة مسئولو البنك المركزى الأوروبى إلى روما لاستعراض وتقييم ومراجعة أحكام هذه الميزانية.
وقد اجتمع أربعة مسئولين كبار من البنك مع نائبى رئيس مجلسى البرلمان الإيطالى، أحدهم كان السيناتور، ماسيمو رأفاجليا، الذى كان يشغل نائب رئيس لجنة الميزانية، والذى ذكر فى مقابلة تليفزيونية فى نفس يوم هذا الاجتماع أن مسئولى البنك "قد أجروا تحقيقًا معنا"، وحينما تم سؤاله حول دعمه لمونتى فى رئاسة الوزراء، أجاب بأنه "لا يمكن تعيين رئيس وزراء بهذه الطريقة.. يجب أن تكون هناك انتخابات، والشعب هو من يحكم".
ووفقًا لذلك، وكما يروى الكتاب، رد مسئولو البنك الأوروبى عليه بأنه إذا لم يدعم مونتى، فسوف تتم عملية شراء لسنداته الخاصة خلال شهرين، مما يعنى إفلاسه، أى أنه تعرض لعملية ابتزاز مدبرة بإحكام من مسئولى البنك لإسقاط بيرلسكونى.
وبعد ذلك بثلاثة أيام فقط خرج بيرلسكونى فعلاً من منصبه ليحل محله ماريو مونتى، ثم بدأ البنك المركزى الأوروبى فى شراء السندات الإيطالية لتخفيف حدة الأزمة المالية بإيطاليا، ولتبقى فى منطقة اليورو، ومن ثم تجنيب البنوك الألمانية والفرنسية خسائر فادحة لو كانت إيطاليا قد تركت منطقة اليورو فعليًا وتعثرت ماليًا فى ذات الوقت.
ويقول مؤلف الكتاب، لورينزو بينى سماغى، أنه ربما لا تعد شهادة جارافاجليا هى الأكثر وثوقًا، لكن الكثير من السياسيين الإيطاليين، من بينهم بيرلسكوني، يعتقدون فى هذه الرواية التى أسقطت بيرلسكونى من رئاسة الوزراء، حتى وإن قال مسئولو البنك المركز الأوروبى، إنهم تصرفوا وفق المعايير المالية الدقيقة للنظام الأساسى بشأن استراتيجية شراء السندات، وأنهم يفعلون ذلك بالفعل منذ عصفت الأزمة المالية بمنطقة اليورو.
وفى الواقع فقد خفت حدة الأزمة نسبيًا جراء هذا التدخل من البنك المركز الأوروبى، والذى قال رئيسه السابق العام الماضى، إن البنك "سيفعل كل ما يلزم عن طريق شراء سندات من البلدان المنكوبة مثل إسبانيا والبرتغال وأيرلندا الشمالية واليونان وقبرص وإيطاليا لإنقاذ منطقة اليورو"، لكن يبقى السؤال، هل تراجعت أزمة اليورو حقًا؟
إن هناك بعض التحسينات أو التطورات الإيجابية المهمة مثل، إصلاح معاشات التقاعد وغيرها من المستحقات، وتحرير أكبر للأسواق فى إيطاليا وإسبانيا والبرتغال، وانخفاض ملحوظ فى عجز الموازنات وكلفة العمل وارتفاع طفيف فى الإنتاجية، لكن الثمن المقابل يتمثل فى البطالة والإفلاس والاضطرابات السياسية وخيبات الأمل الشعبية.
وربما تؤكد إحصائية واحدة عن إيطاليا تلك الحقيقة، أى الشعور بالخيبة والإحباط، وعمق الأزمة الاقتصادية فى إيطاليا، حيث تشير الوثائق والتقارير الصادرة عن البنوك الإيطالية إلى أن الناتج المحلى الآن هو أقل مما كان عليه فى عام 2001، ما يعنى فقدان إيطاليا 12 عامًا دون تقدم، وأن قيمة القروض المتعثرة فى إيطاليا تزيد عن إجمالى رأس المال "الواقع ضمن الفئة 1" لدى كافة البنوك الإيطالية مجتمعة.
ومن هنا فإن إيطاليا ربما تشهد أزمة سياسية كبرى فى ظل خلل اقتصادى كبير، وهو ما يأتى فى ظل أوضاع اقتصادية عالمية صعبة، فألمانيا بقيادة ميركل التى تسعى لتشكيل ائتلاف حكومى تقع عليها ضغوط حول خطط الإنقاذ، والصين تعرف تراجعًا للازدهار الاقتصادى، والكونجرس الأمريكى يواجه خلافات عميقة حول الميزانية الأمريكية الجديدة.
ليتا وبيرلسكونى.. إيطاليا بين معضلة الاقتصاد وأزمات السياسة
الأربعاء، 02 أكتوبر 2013 03:06 ص