حارة متقاربة المنازل تفصل بين شارع المذبح القديم وصورة والدها العتيقة، أسفلها تستقر ببشرتها النيلية، تعلن عن المقر الأقدم لصناعة السكين والساطور، وسيدة وحيدة دخلت لهذا العالم، رغم ملامحها التى تشير إلى نهاية أربعة عقود من العمر قضتهم هنا، لا زالت تبدوا نعومة أيديها أسفل برادة الحديد تتعافى على صنعة الشقاء، تتنقل من دق السلاح الخام إلى التشكيل على النار ثم حجر السن ومنه لتصنيع اليد الخشبية وفقا لقواعد صارمة، الغلطة فيها تساوى حياة، تبدع شكل جديد كل يوم لتحجز موقعها بجدارة كحامله لأختام "المَعلَمة" فى صناعة السلاح، ووارثة سبعة أجداد تناقلوا المهنة فى نفس المكان الذى تحمل الآن مفاتيح أسراره، ولكن "بالأيدى الناعمة".
بابتسامة تستقبلك أمل صاحبة الثمانية والأربعين عاما، وابنه عم عاشور السنان لتدخل بك إلى أسرار وجودها فى هذا العالم، تعود بالقصة إلى البداية وتقول: "أبويا كان عنده عشرة ولاد رجالة، بس علاقتى معاه كانت السر، وأنا صغيرة كنت جنبه فى كل حاجة، وبدأ يشربنى الشغلانة وأنا عندى 12 سنة، وعلى ما وصلت 17 سنة كنت بعرف أصنع السكينة من أولها لآخرها".
بحماس تحكى عن والدها: "عاشور السنان الله يرحمه ورث المهنة عن 6 جدود، وعياله العشرة هما اللى فاتحين معظم محلات تصنيع السكاكين والسواطير مع الناس اللى اتعلمت من تحت إيده" يظهر السر فى ابتسامتها التى أصبحت سر وجودها حتى الآن حين تتابع الحديث: "السنة اللى فاتت مات ستة من أخواتى كلهم حزنوا على بعض وراحوا ورا بعض، ودلوقتى أولادهم هم اللى ماسكين محلاتهم".
تقترب بهدوء من مربع ملىء بالفحم، هو مقر تشكيل سكاكينها الضخمة، وتتلمس كلمات حفرها والدها فى ذهنها وجسدها من قبله وتقول "السكينة والساطور شغلانة زميل، يعنى متعرفش تشتغلها لوحدك لازم زميل بيعمل معاك السكينة، وشغلانة تركيز لو تركيزك راح ثانية تضيع"، تشير إلى مكنة جلخ السكين، وتقول "هنا أخويا سرح ثانية طار من أيده أربع صوابع، أبويا الله يرحمه كنت لما أتعور يضربنى وأنا متعورة، ولما أسأله ليه يقولى لو مركزة مكنتيش اتعورتى، ولو اشتغلتى من غير تركيز تضيعى".
على أبواب محاجر الرخام تبدأ رحلة السكين قبل الوصول إلى مقر "أمل" الذى يستقبل سكين مكن قطع الرخام عقب تلفه، لتبدأ عملية تحويله إلى سكين جزارة أو ساطور كامل.. طريق ملتوى يفصلك بين المصنع ومحل السيدة، حيث تستقر عشرات الأنواع من السكاكين والسواطير، تحفظهم عن ظهر قلب وتقول: "الأنواع والأشكال محتاجه كتاب، بس فى نوعين رئيسين النوع البلدى اللى أحنا بنصنعه، والصينى اللى بنستورده".
تسحب من كل نوع مثال وتقارن: "الصينى قد تمن بتاعنا عشر مرات، بس الخامة والقوة عندنا أعلى بكتير، بس هما بيفرقهم عننا الإمكانيات اللى بطلع حاجة شكلها حلو بتشد الجزار، لكن الجزارين القدام ما بيشتغلوش غير بالبلدى".
فستان أبيض، وفرح، وسنوات قليلة تناست خلالهم مصنع السكاكين، هم ذكريات "أمل" مع الأيدى الناعمة التى لم تدم طويلا، تتلألأ فى عيونها نظرة حنين، وهى تقول: "بعد ما اتجوزت سيبت الشغل وفضيت لبيتى وعيالى، بس بعد ما جوزى اتوفى كان لازم أرجع للشغل ثانى".
عارف المرأة والساطور؟.. أمل هى المرأة اللى بتصنع الساطور
الخميس، 17 أكتوبر 2013 05:17 م