لا أتصور أن من يدعو للعنف هو صادق مع نفسه أو حريص على مستقبل بلاده
سادت فى مصر فى الأسابيع الأخيرة لغة جديدة أو لهجة جديدة يتصور البعض أنها ترتبط بالخطاب الثورى ويراها البعض السبيل الوحيد لتحقيق مكاسب سياسية حيث التخويف والتهديد!! والحقيقة أن مجمل هذا الخطاب لا يمكن تصوره داخل المجتمع الواحد، وربما هو الأقرب لو تصورنا حالة حرب بين دولتين وكلاهما يعبئ مجتمعه حتى يضمن مساندة كاملة ومستمرة.
ومن هنا وجب التنبيه لخطورة وخطيئة هذا الخطاب وعبثيته فى ذات الوقت فهو:
أولا: يعد خروجاً واضحاً عن أهم المبادئ التى أرستها ثورة 25 يناير وهى السلمية التى لا أكون مبالغا إذا قلت أن من يدعو للتغيير المسلح بعدها أو من ينتهج العنف وسيلة فى ضوء مقرراتها إنما يعزل نفسه عن الشعب المصرى ويعلن صراحة خروجه على هذه الثورة التى أصبحت هى أهم محدد للحياة السياسية فى مصر.
ثانياً: لا يمكننى أن أتصور إن من يدعو للعنف أو يهدد به اليوم هو صادق مع نفسه أو حريص على مستقبل بلاده، فطريق العنف معروفة كل مكوناته ومعالمه كما أن نهايته تكاد تكون حتمية حيث التشرذم والتفكك والانهيار أو الفشل.
ثالثاً: لابد من التأكيد على أن من يدعو لذلك فى مصر فهو لا يفهم طبيعة المجتمع الذى يخاطبه ولا طبيعة التحولات التى مر بها على طول التاريخ.. وهى التى جاءت بشكل طبيعى وتلقائى دون قسر أو عنف ولا يمكن أن تتم به تحولات طبيعية ناجحة دون ذلك.
رابعاً: هناك من يتصور أن زراعة العنف فى أى مجتمع أو تجييش بعض الطوائف ضد بعض أمر ممكن فى كل مكان وزمان، والحقيقة التى لا يدركها هؤلاء أن أى محاولة لزراعة العنف أو غرس بذرته فى مصر سيلفظها هذا الشعب من خلال ميراثه السلمى الطويل وطبيعته السلمية الغلابة، التى لم تتغير على مدى آلاف السنين.
خامساً: كما أن المجتمع المصرى وإن أعطى كل أفراده أسلحة أو وضعت الدبابات على أبواب أحيائه لن يتحول أبداً إلى ميليشيات ولن يقاتل بعضه بعضاً فى سبيل تحقيق أحلام أو أوهام بعض القادة.. بل ربما أعلن حربه الشاملة على هؤلاء القادة!!
وفوق كل ذلك يجب أن تدرك كل الأطراف اللاعبة على مسرح السياسة المصرى الجديد، الذى ربما لم تشهد مصر مثله من قبل على طول تاريخها: أن من أكبر الخطايا وأعظم الجرائم التى ترتكب فى حق هذا الشعب أن يبدأ حياته أو بالأحرى تاريخه الجديد بالتأسيس لوجود العنف المنظم كأحد معالم الساحة السياسية أو أحد الفواعل السياسية.
ولا يفوتنى قبل أن أختتم هذه الكلمات إلا أن أهمس فى أذن كل الساسة الحزبيين وغير الحزبيين بنصيحتين هامتين:
الأولى: أن الشعب المصرى بكل فئاته وكل طوائفه إنما يميل للحياة الهادئة المستقرة ويلفظ الحياة المضطربة والمتقلبة، ومن ثم فلا يمكن أن تبنى سياسة حزب أو تيار يهدف لتحقيق مصالح هذا الشعب ويعمل من خلاله على خلاف الخصائص الرئيسية التى يتمتع بها.
ثانيا: إن مصر وإن لم تكتمل ثورتها بعد ولا تزال بحاجة إلى المزيد من الجهاد السلمى حتى تكتمل.. إلا أنها بحاجة ماسة أيضا لاستدراك ما فاتها فى معركة البناء والتقدم بل إعادة بناء ما تم هدمه خلال العقود الماضية من القيم والمؤسسات وهو ما يجعل الدعوة السياسية الأمينة فى هذه اللحظة تدعو إلى التظاهر بيد والبناء والإنتاج باليد الأخرى.