د. رضا عبد السلام

قرض صندوق النقد قرض ربوى ... فما هو بديلك؟!

السبت، 15 سبتمبر 2012 08:15 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
معروف عن المصريين أنهم يجيدون فن الإفتاء، فالكل يفتى سواء فيما يعلم أو فيما لا يعلم، فالعلم فى الراس مش فى الكراس، واللى ما علمتهوش المدارس علمته الأيام والليالى...إلخ. والحقيقة أن مشكلة مصر الراهنة تكمن فى تعدد وتنوع الفتاوى وتشعب مآرب مطلقوها، ولهذا فإن ما نحن فيه من حالة فوضى فكرية وثقافية ودينية ليست إلا حصاد ونتاج طبيعى لهذه البيئة الفاسدة والمدمرة.

يا سادة، إذا أردنا بحق أن نبنى مصر على أسس راسخة، فعلينا أن نعلى من كلمة العلم والعلماء وأن نحترم التخصص، وندعو الله أن يشفينا من أمراض السفسطة وحشر أنوفنا فيما لسنا أهلا للحديث فيه..آمين. مؤكد أن هناك أموراً عامة يمكن للعامة أن يتناقشوا بشأنها، ولكن عندما يتعلق الأمر بمسألة فنية دقيقة، فلابد أن يستمع الجميع إلى أهل الاختصاص.

خرج علينا منذ أيام قلائل مجموعة من الفلاسفة، وأعلنوا أن قرض صندوق النقد هو قرض ربوى يحرمه الشرع، لذا علينا أن نوقف التفاوض بشأنه!! بسم الله ما شاء الله... كلام جميل...ثم ماذا بعد؟ ماهو بديلكم؟ هل قدمتم بديلاً حلالاً ينقذ ميزانية الدولة، ويمكن الحكومة المصرية من توفير النقد الأجنبى، بحيث تستطيع شراء السلع الرأسمالية والسلع الاستراتيجية؟ أم أن دورنا محصور فقط فى مجرد إطلاق الفتاوى التى لا تسمن ولا تغنى من جوع؟!

لقد سبق أن كتبت على صفحات هذه الجريدة مقالاً بشأن قرض صندوق النقد وذكرت أن صندوق النقد مؤسسة ذات تاريخ غير مشرف مع الدول النامية، وأنه كان بمثابة الذراع الاقتصادية للسياسة الغربية والأمريكية، فتمنح التمويل للطائعين وتمنعه عن العاصين، بغض النظر عن الظروف الاقتصادية الحقيقية للدول والشعوب، هذا فضلاً عن الشروط التعجيزية التى اعتادت هذه المؤسسة فرضها على الدول النايمة، والتى زادت من بؤس وتخلف تلك الدول، وما يحسب لتجربة النمور الآسيوية أنها استطاعت تحقيق النهضة بعيداً عن قروض تلك المؤسسات المسيسة، ولكن من المؤكد أن الزمن غير الزمن والظرف غير الظرف، وما تيسر لدول شرق آسيا فى ظروف زمنية لا يناسب مصر فى ظرفها الزمنى الراهن.

لا شك أن موارد مصر كثيرة، والخيرات لا حصر لها، ولكنها لا تزال موزعة توزيعاً غير عادل، كما أن هناك الكثير من الناهبين لثروات البلاد لا يزالون بعيدين عن أعين أو رقابة الدولة، وأنه لو تمكنت الدولة من وضع يدها على ثروات مصر فلن نحتاج إلى قرض هذه المؤسسة الظالمة.. كل هذا مفهوم وواضح لنا كاقتصاديين. ولكن نحن أمام ظرف اقتصادى ومشكلات اقتصادية حالة تقتضى توفير التمويل، ومصادر التمويل الحكومى معروفة إما من الداخل عبر الدين العام الداخلى والذى تضخم وانتفخ وزاد عن الحد، أو الدين العام الخارج أى الاقتراض من الخارج سواءً من دول أو مؤسسات كصندوق النقد الدولى.

كنت أتمنى أن تبادر دول الخليج العربى من خلال خطوة جماعية لمجلس التعاون الخليجى بتقديم قرض ميسر لمصر بقيمة الـ 5 مليار دولار، وبالشروط التى يتم الاتفاق عليها.. كنت أتمنى هذا، ولكن هذا الباب مغلق لحين اطمئنان دول الخليج بأن المصريين لا يسعون إلى تصدير ثورتهم.. فهل ينتظر اقتصاد مصر أو تنتظر المشكلات لحين تفضل دول الخليج؟!
مؤكد أن الحديث عن ربوية قرض صندوق النقد سيفتح الباب على مصراعية لحديث وجدل أوسع بشأن النشاط المصرفى فى مصر، الذى تغلب عليه المعاملات الربوية حسب هذا الفهم. ومن ثم فإن كافة البنوك بحاجة إلى مراجعة سياساتها لتتكيف مع هذا الواقع الجديد.

ورغم إيمانى بأهمية تحرى الحلال فى المعاملات المصرفية والابتعاد عن الربا المحرم، فإن الواجب يحتم على - كباحث وكاتب - أن أؤكد على أمر مهم، وهو أن الكثير من معاملات البنوك المسماة بنوكاً إسلامية هى أشد ربوية من المصارف التقليدية، وقد كتبت مقالاً فى جريدة الاقتصادية السعودية منذ أكثر من ثلاث سنوات، وفى عقر دار المصرفية الإسلامية (أى المملكة العربية السعودية)، وكان تحت عنوان "البنوك السعودية هى الأعلى ربحية فى العالم" والمقال متاح على صفحة الجريدة على شبكة الإنترنت، نعم.. للأسف يتم استغلال الدين والاتجار به من أجل تحقيق مكاسب جمة، فالربا حرام، وبما أن جل الشعب السعودى يتحرون الحلال ويخشون المعاملات المحرمة، اضطر أغلب المودعين (أكثر من 55%) إلى إيداع أموالهم بالمليارات فى صورة حسابات جارية دون عائد (لأن الربا حرام). الذى فعلته البنوك، وبناءً على كشوف السحب والإيداع، أنها أدركت أن جل تلك الحسابات لا يتم التعامل عليها، فقامت بالاتجار بتلك الأموال فى الداخل والخارج، كما قامت بتقديم قروض للمشروعات بفوائد تتراوح ما بين 7 و 10%.

وفى المقابل، بالنسبة للبنوك المسماة بالربوية، يقدم البنك للمودع فائدة وليكن 10%، ثم يعيد إقراض الوديعة للمستثمر بـ 13%، وبالتالى فإن هامش ربح البنك هو 3% فقط، يدفع منها المرتبات والضرائب والتجهيزات.. إلخ. الأمر على خلاف ذلك فى البنوك المسماة بالإسلامية، فالبنك حسب الوصف أعلاه تشكل تكلفة القرض بالنسبة له صفراً، لأنه لا يدفع فائدة نظير الإيداع (لأن الفائدة حرام). ومن ثم فإن صافى الربح يتراوح ما بين 7 و 10%!!! هل أدركتم مكمن الخطر؟!

إذاً، علينا كأمة إسلامية من خلال المؤسسات الإسلامية الكبرى كالاتحاد العالمى لعلماء المسلمين، أن تجتمع مجامع البحوث الإسلامية فى مختلف الدول الإسلامية وتتفق على مفهوم موحد للربا المحرم، بحيث لا تكون نفس المعاملة حلالاً حسب فتوى مفتى مصر وحراماً حسب فتوى مفتى السعودية مثلاً.. فالحلال حلال والحرام حرام.. كما أتمنى أن تكون تلك الحوارات فى حضرة أهل الاختصاص وهم رجال الاقتصاد لكى يفهم رجال الدين فنيات العمل المصرفى والاقتصادى، وبالتالى نميز بين المعاملات المحرمة والمعاملات الاستثمارية المشروعة.

وهنا أتذكر مقولة قالها لى المشرف الإنجليزى على رسالة الدكتوراه، كيف يحرم الإسلام معاملة استفاد منها الجميع؟! فأنا أستاذ بالجامعة (والحديث للمشرف الإنجليزى) لا أعرف غير التدريس والبحث ولدى فائض من المال، أودعته فى البنك، قام البنك بتشغيل المئات من خريجى كليات التجارة، وأقرض المال لتونى، فقام تونى ببناء مصنع وشغل الآلاف وصدر بالملايين، وأعاد القرض والفائدة للبنك، فاستفدت واستفاد تونى واستفاد البنك واستفاد الخريجون واستفاد الناس فى صورة وظائف جديدة، كيف تكون هذه المعاملة التى أفادت الجميع حراماً فى شريعتكم؟

لن أتحدث أو استطرد فى شرح ردى عليه، ولكنى أوجه نفس السؤال على أولى الأمر وأقصد هنا رجال مجمع البحوث الإسلامية (ولا أقصد هواة المشايخ ومتنطعى الفضائيات) وأساتذة الاقتصاد والمالية والتمويل، فهل نبدأ بناء دولتنا على أسس سليمة أم نتركها فوضى لكل من هب ودب، لكى يتحدث فيما لا يعنيه؟!








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة