«الهروب أصعب من السجن».. «لم أذق طعم النوم الآمن إلا بعد السجن».. كلمات قالها كثير ممن قابلتهم ممن خاضوا تجربة الهروب السياسى الطويل، فالهروب تجربة صعبة وفيها من القلق والتوتر والخوف من كل شىء حولك.. والترقب الشديد.. وهذا ما لا يعرفه إلا أصحاب هذه التجربة الثرية.. وقد كنت يوماً ما فى شبابى أحدهم.. ولذلك أعشق قصص الهروب السياسى وأبحث وأكتب عنها.. ويعد سيدنا موسى «عليه السلام» أشهر هارب سياسى فى التاريخ.
أما أشهر من هربوا فى التاريخ السياسى المصرى فهما المرحوم الشيخ حسن العشماوى القيادى الشهير بجماعة الإخوان المسلمين الذى هرب داخل مصر وخارجها قرابة عشرين عاماً.. وهو والد الأديبة أمانى العشماوى زوجة العلامة د. سليم العوا. أما الثانى فهو موضوع مقالنا اليوم وهو الأخ عبدالحميد أبو عقرب الذى كتبت عنه مقالاً فى الأسبوع الماضى.. لقد كانت قصة هروب أبو عقرب مثيرة للغاية وفيها من معانى الشرف والأمانة الكثير والكثير. لقد مكث أبوعقرب 15 عاماً كاملة هارباً داخل مصر من سنة 1992م وحتى سلم نفسه للأمن سنة 2007م.
وكلما قرأت فى كتاب الله لا أجد تعبيراً عن الهارب السياسى أجمل وأدق ولا أوقع من قوله تعالى عن سيدنا موسى عليه السلام فى قوله تعالى «فأصبح فى المدينة خائفًا يترقب» وقوله تعالى «فخرج منها خائفًا يترقب».. فالخوف والترقب هما مفتاح شخصية ونفسية الهارب.. فهو يخاف من الليل إذا جاء.. ومن النهار إذا أصبح.. ومن نظرة الجيران إذا رأوه.. ومن حركات السيارات فى الطريق.. ومن صوت الرياح إذا هزت الأشجار.. إنه يخاف دومًا من المجهول.. وهو يعيش دائمًا فى ترقب وحذر.. فهو يترقب أن يداهم الأمن مكانه بقوات لا قبل له بها.. ويترقب أن يقبض عليه.. أو يطرد من مكانه.. أو يشى به غيره.. أو يقتل فى الزراعات.. وهو حذر فى كلامه.. وفى بسمته.. وفى صلاته.. وفى عبادته.. وفى إظهاره لأى شىء ينم عن شخصيته.. إنها والله لحياة صعبة عسيرة.. عشت بعضها فى أيام هروبى وتذكرت سيدنا موسى عليه السلام.
وصدق المرحوم حسن العشماوى حينما حكى فى مذكراته عن أول نصيحة نصحه البدو بها أثناء هروبه إلى الصحراء «أن ينام وهو مفتوح العين».. فهو لا يدرى من أين يأتى الخطر.. من ثعبان يمشى على الأرض.. أو من ذئب جائع من حوله.. أو من متطفل يريد أن يشى به ويوقع به.. وأهل القرى والنجوع المتطرفة غاية فى المكر والدهاء وليس كما يظن البعض أنهم بسطاء سذج.. ويشمون رائحة الهارب السياسى من على بعد عدة أميال.
وإذا كان المرحوم حسن العشماوى هو أشهر من هرب فى الخمسينيات.. فإن الأخ عبدالحميد أبوعقرب هو أشهر هارب فى تاريخ مصر فى التسعينيات فقد حكم عليه بالإعدام مرتين.. دون أن يكون له دور حقيقى فى الأحداث.. ولكن الهارب تلقى عليه كل التهم العالقة.. فهذا ما أدركناه من تاريخنا السياسى، فكل من وقع فى كارثة ولا يجد لها مخرجاً يلقيها على اثنين لا ثالث لهما بعد القبض عليه.. إما الميت وإما الهارب.. ويا لمصيبة هذين إذا ثبت أن موت الأول كان شائعة.. أو تم القبض على الهارب حيث سيواجه بمشاكل تصلح لإعدام الكرة الأرضية كلها.
المهم أن صاحبنا ضرب الرقم القياسى فى زمان ومدة الهروب.. وذلك لأنه عمل بقاعدة ذهبية فى هروبه يعرفها كل المختصين وذوى الخبرات فى الهروب وهى «اقطع صلتك فوراً بكل من يعرفك».. وهذه القاعدة الذهبية طبقها حرفياً أبو عقرب كما طبقها من قبل «الشيخ المرحوم العشماوى». ورغم تخرج أبوعقرب من كلية التجارة وانتمائه لأسرة عريقة غنية من أسر الصعيد فإنه يبدو لأول وهلة وكأنه أزهد من فلاح بسيط.. وهذا ساعده فى هروبه فى القرى والنجوع فى الصعيد.
لقد حسم أبوعقرب أمره وطلق مهنة المحاسبة التى تعلمها فى الكلية تماماً واختار مهنة مناسبة للهروب يستطيع أن يتحرك تحت ستارها بسهولة ويسر ودون أن يشك فيه أحد.. فعمل تاجراً متجولاً فى أسواق القرى البعيدة، وقد أعجبت أمانته ودقته التجار فكانوا يعطونه ما يريد من البضاعة.. لقد اكتسب محبة من حوله بالأدب والخلق الكريم والأمانة والحلم.
لقد عمل فترة من هروبه عند صاحب مزرعة فراخ غشه كثير من العمال قبله.. حيث كانوا يقبلون الرشوة من التجار.. فدهش الرجل حينما كان يرى فرج «وهو الاسم الحركى لأبى عقرب فى الهروب» دائم العمل ولا يترك المزرعة أبداً ويحقق أعلى إنتاجية ومكاسب لصاحب المزرعة.. بل يجده قد زرع حول عنابر الدجاج أنواع الفاكهة المختلفة من عنب وبلح وتين وقشطة وجوافة، وزيّن كل المساحات الفارغة فى المزرعة بالورود.. وكان يوزع ثمارها كصدقة للفقراء والمساكين ويعطيها كذلك للأطفال وابن السبيل الذى يمر على المزرعة.. حتى أحبه الجميع حباً كبيرا.. وإذا أتى صاحب المزرعة فجأة رأى «أبوعقرب» يعمل ليلاً ونهارا فى المزرعة.. وكان يسجل يوميات كاملة عن الكتاكيت وتطورها وعددها والمريض والصحيح فيها.. وكان يعد لكل كتكوت ملفا صحيا وهذا عسير جداً إذا علمنا أن دفعة الكتاكيت تبلغ عادة قرابة «12 ألف» كتكوت.. وإذا حاول بعض التجار رشوته يقول لهم: «أنا أعمل فى المزرعة وأنا صاحبها أيضاً».
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
أبو عمر
مقال جميل
رائع جديد مختلف هو مقالك