حكايات رمضانية.. رمضان بين أكناف المتصوفة والجهاديين والإخوان

السبت، 18 أغسطس 2012 09:31 م
حكايات رمضانية.. رمضان بين أكناف المتصوفة والجهاديين والإخوان صورة أرشيفية
كتب سيد محمد زكى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى قريتى "طلا" الراقدة فى الشريط الأخضر الممتد بين النيل والجبل الغربى التابعة لمركز الفشن، الذى ينتسب إليه المقرئ الشهير الشيخ طه الفشنى - رحمه الله - بمحافظة بنى سويف، ذكريات رمضانية تحوى فى طياتها مراحل متعددة تتسم، على اختلافها، بلون من التحدى والصمود ضد الفقر والجهل وقلة الإمكانيات.

نظرا لأن أغلب القرية كان يعانى من الفقر، كنا أطفالاً لا نمتلك إمكانيات، لكننا لم نكن نرضى لأنفسنا أن نُحرَم من الاستمتاع بمظاهر الفرحة بقدوم هذا الشهر الكريم، فكنا نصنع زينتنا من أوراق الكراسات القديمة، نقوم بتقطيعها إلى جذاذات طولية ونصنع منها سلاسل ورقية، وأذكر أننا كنا نلصق أطراف حلقاتها بعجين القمح ثم نقوم بتعليقها فى مداخل البيوت وفى عرض الشوارع، أما فوانيسنا فكنا نصنعها من علب التونة والسلامون الفارغة، وكثيراً ما كانت تتلون تلك العلب بدماء أيدينا عند قطعها بالسكين، ثم يضع كل منا شمعته من الباب الجانبى الذى فتحه فى العلبة، ويعبر بفانوسه الذى صنعه بيديه أحد الشوارع المظلمة ليصل إلى بيت أقاربه حيث يباهى به أترابه.. حقاً الحاجة أم الاختراع.

حين وعيت إلى الدنيا وجدت الفكر الصوفى سائداً فى قريتى، شهدت حضرات المولد عند ضريحى الشيخ صفا والشيخ عبد الله، أو عند أحد بيوت القرية لمناسبة ما، وتقديس الشيوخ أصحاب الأضرحة، وتنفيذ ما يطلبونه من بعض الناس فى المنام، ولم يكن أحد يجرؤ على ذكر أحدهم بسوء حتى لا يمسسه بضر فى منامه.

كان رمضان فى هذه الفترة يأتى فى أشهر الصيف، وأذكر أن أمى كانت تشفق على من الصيام فتدس لى الطعام فى حقيبة الكتب، وكنا نتنافس فى عدد الأيام التى يستطيع كل منا إتمام صومها، وكان بعضنا يفطر إغراء بحبات الكركديه اللامعة بلونها الأصفر أو الأحمر داخل الكيس، أو لون الشربات فى الزجاجة، أو الكنافة، أو الماء، بعدها يحرقه الندم، خاصة إذا وقع منه الإفطار قبيل المغرب، وأذكر أننا كنا نحتال على جفاف حلوقنا بغرغرة الماء البارد، وأحيانا كان يتسرب الماء إلى أجوافنا، فيبقى كل منا باقى يومه لا يدرى هل هو صائم أم مفطر.

بعد الإفطار، كان الأطفال يمر بعضهم على بعض ثم يجتمعون فى بيت من بيوت العائلة يحوز تليفزيونا، ليشاهدوا فوازير جدو عبده ثم يخرجون يلهون، بعدها يعودون للتجمع لمشاهدة «التمثيلية» ومن كان يغلبه النوم فى إحدى الليالى يحكى له الآخر الحلقة التى فاتته.

أما عن عقيدتنا فى ليلة القدر فى تلك الفترة فكانت- حسبما كنا نسمع من كبارنا آنذاك- أنها تحديداً فى ليلة السابع والعشرين من رمضان، وأن علامتها ظهور غربال فى السماء بأضواء زاهية ذات ألوان متعددة، وأنه لا يراها أحد إلا ناله الخير الوفير فى الدنيا والآخرة، وكان أحدنا تعتريه قشعريرة حين يسمع أن فلاناً رآها مرة، وأن سر الخير الذى يعيش فيه الآن هو أنه «فتحت له طاقة القدر»، ومازال ذلك مضرب المثل فى قريتنا لمن يغتنى بعد فقر، وكنا نسهر فى تلك الليلة حتى يغلبنا النوم، ثم نصبح يعزى أحدنا الآخر لعدم التوفيق فى رؤيتها إلا من كان مجبولاً على الفهلوة والكذب فيزعم أنه رآها.

جاءت مرحلة ظهور الملتحين فى قريتى، «السنيين»، فعايشت فى صباى الصراع على أشده بين المتصوفة وبين «السنيين» حيث كان «السنيين» يرون أعمال المتصوفة من البدع، وأن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار، أما المتصوفة فكانوا يهتفون فى مناسباتهم «لا إله إلا الله السنيين عدو الله»، وأذكر أننى بعد أن انضممت إلى معسكر السنيين كنت أشبه سائر الناس من أتباع المتصوفة بالكفار حين كانوا يرفضون دعوات الأنبياء ويتمسكون بما وجدوا عليه آباءهم.

كان رمضان مع «السنيين» نوعاً من التعب لكنا كنا نشعر فيه باللذة، فالتراويح كانت تصلى بجزء أو جزأين على حصر البردى خارج المسجد، وكان الناموس يقتات على دماء أرجلنا، وكنا لا نذبه عن قدم بقدم إلا فى حركات محسوبة خوفاً من بطلان «صلاتنا»، وكانت لنا مواقف طريفة بسبب نوم أحدنا فى الصلاة، وفى الاعتكاف فى العشرة الأواخر، كنا - الأطفال - نرابط فوق سطح المسجد الذى كان فى أحد أطراف القرية تحسبا للمداهمات الأمنية خاصة فى تلك الفترة التى شهدت حملات اعتقال موسعة لكل السنيين، متذكرين قول الرسول «وعين باتت تحرس فى سبيل الله» وكنا نشعر بالغبطة والحبور حين ننادى بلقب الشيوخ ونحن لا نزال مرد الوجوه.

وجاءت مرحلة الجامعة، بعد اعتقال كل الملتحين من أهل قريتى، فتعرفت خلالها على الفكر الإخوانى، والحق أننى تصححت لدى مفاهيم كثيرة، فقد تعلمت أن ظلم الحاكم لا يخرجه من الملة، وأن إصلاح المجتمع لا يتم إلا باللين، عملاً بقول الله تعالى لموسى حين أمره بدعوة فرعون، رغم كفره، «فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى»، وأن المرء يعذر بجهله، فأدركت الفوارق الفكرية بين الملتحين وأن «السنيين» الذى كانوا فى بلدتى يحملون الفكر الجهادى، وأصبحت أحد الكوادر الإخوانية فى الأنشطة الجامعية، وكنت أقضى العشرة الأواخر من رمضان أيام الجامعة معتكفا بالمسجد الملحق بمدرسة الدعوة الإسلامية التابعة للإخوان فى مدينة الفشن، وأهلى فى انتظار عودتى من السفر دون أن يدروا أننى على بعد أميال منهم، وكنا أثناء الاعتكاف نعد الاسكتشات لعرضها يوم العيد.

الآن حين أزور قريتى فى رمضان أجد الأطفال يحملون فوانيس رمضان الصينية التى تضاء بالبطاريات وتغنى،لكنى لا ألحظ على وجوههم نفس مظاهر السعادة التى كنا نشعر بها ونحن نحمل فوانيسنا البدائية القديمة، كما أرى انحسار الفكر الصوفى وزيادة المد الإخوانى لكنى أشارك فقط فى الأعمال العامة للإخوان، وأقابل شيوخى القدامى من «الإخوة السنيين» الذين خرجوا من السجون بعد أن قضوا قرابة ثلاثة عشر عاماً فنتبادل السلام السطحى، لكن أعيننا يذكر بعضها بعضا بأيام خالية كانت علاقتنا فيها أقوى من أخوة النسب.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة