بادئ ذى بدء أود أن أوضح أن تجربة العالم مع الخصخصة أوالقطاع الخاص على مدى العقدين الماضيين لم تكن تجربة ناجحة، بل باءت بفشل ذريع.
فقد قادت أنانية القطاع والشركات الخاصة، فى ظل غياب شبه كامل لدور الدولة، إلى كوارث عديدة، وعلى رأسها الأزمة المالية والاقتصادية العالمية 2008م، وما سبقها وما تلاها من توابع كأزمة منطقة اليورو، التى نسمع عنها ليل نهار.
الشاهد هنا أن القطاع الخاص دوره مطلوب فى الحياة الاقتصادية والاجتماعية، ولكن ليس معنى الاهتمام بالقطاع الخاص أن يُترك له العنان ليفعل ما يشاء. فالقطاع الخاص، وكما تعلمنا ونعلم أبناءنا، لا يوجد فى قاموسه سوى كلمة "الربح Profits"، ويبحث عن الربح أينما وجد وبأى طريقة كانت! بالطبع، ولا يمكننا أن ننكر حق القطاع الخاص فى البحث عن الربح، لأن هذا هو مبرره للتطوير والمزيد من الابتكار، ومن ثم التقدم والرفاهية.
ولكن لا يعنى التسليم بأهمية القطاع الخاص أن نترك له العنان، أو أن تغيب الدولة عن المشهد كما كان ينادى أنصار ما يسمى بالليبرالية الجديدة.
فقد قٌلتها فى مؤتمر دولى عقب وقوع أزمة 2008 مباشرة (وقالها الكثيرون من أساتذتى) بأنه "مهما كانت تكلفة تدخل الدولة فى الحياة الاقتصادية والاجتماعية، فإنها لا يمكن أن تقارن بتكلفة ترك العنان للقطاع الخاص، وما ينجم عنه من أزمات متلاحقة، كلفت وتكلف العالم آلاف المليارات، فضلاً عن التوابع الاجتماعية المختلفة".
وبما أننى من المؤمنين بأن الاقتصاد علم اجتماعى، فإن الظواهر الاقتصادية لا تنفصل عن الظواهر الاجتماعية المختلفة.
فتطبيقاً لسياسة الخصخصة ومبادئ الحرية، تركت مصر العنان لمؤسسات القطاع الخاص لإنشاء فضائيات كثيرة، حتى باتت تملأ فضائنا العربى.
لا يمكننا أن ندعى أن كل ما تقدمه تلك الفضائيات غث أو غير ذى قيمة. ولكن بوجه عام - وبعد أكثر من نحو عقد على التجربة - نستطيع القول بأن فشل القطاع الخاص على الصعيد الاقتصادى واكبه أيضاً فشلاً للقطاع الخاص على الصعيد الإعلامى والفنى والثقافى!
فالفضائيات التى وصفتها بفضائيات الدمار الشامل، وفى سبيل بحثها عن الربح، واجتذاب الشريحة الأكبر من المشاهدين، هى على استعداد تام للتضحية بأى شىء وبكل شىء، المهم هو أن يتجمد المشاهد أمام شاشاتها، حتى تتقاطر الإعلانات مدفوعة الأجر، فتمتلئ خزائنهم، وليذهب المجتمع بأثره إلى الجحيم!!
أنا على يقين وقناعة تامة بأنك لو نزلت إلى الشارع، وسألت أى مواطن عادى عن رأيه فى الفضائيات والبرامج الفضائية، سيكون الرد الحاسم هو أنه مل ومقت تلك الفضائيات، التى ينافس بعضها بعضاً ويحارب بعضها بعضاً. فجميعهم يتبارون فى سباق محموم نحو القاع!
نعم هو سباق نحو القاع، والخاسر الأكبر هو المواطن والمجتمع والحبيبة مصر. لنأخذ تسابق فضائيات الدمار الشامل على اجتذاب المشاهد المصرى والعربى فى رمضان (شهر القرآن)! أعتقد أن من لا يستطيع الرؤية من الغربال فهو أعمى. فقد تبارت الفضائيات فى إعداد وشراء برامج فى غاية الإسفاف، والانحطاط أحياناً، حتى بات شهر رمضان على يد تلك الفضائيات شهر لنشر غسيل أهل الفن والراقصات، والحديث عن الشذوذ والعلاقات غير المشروعة والدعارة والأجزاء التى يفضلها الرجال فى النساء...الخ. أرجو أن يتعطف على أحد ويصحح لى ما ذكرت؟!
وعلى الصعيد السياسى، تنطلق كل فضائية من خلفية معينة سياسية أو دينية، وتشهر أسلحتها - وبكل ما أوتيت من قوة مادية - لتحاول وأد الرؤية أو التيار المخالف. فالكل يكذب الكل، والكل يضلل الكل، والكل يتهم الكل، والكل يخون الكل. حتى وجد والمواطن المصرى نفسه حائراً وضائعاً فاقداً الثقة فى الجميع! ولنا فى العلامة المجدد ونابغة عصره "توفيق عكاشة" المثل والعبرة!
مؤكد أن الكثير من الحرائق السياسية التى عاشتها وتعيشها مصر سببها الرئيس هو البرامج التى تبثها تلك الفضائيات، فهى تجعل من الفأر فيل، وتستعين فى سبيل إشعال هذا الحريق بالتواقين إلى الظهور والباحثين عن الشهرة، وأولئك الذين يبحثون لهم عن مكان فى هذه الساحة الخالية، بعد أن غارت وجوه زمن مبارك!!
أعود وأؤكد، أننى لست معادياً للقطاع الخاص، كاقتصادى، أنا مؤمن بأهميته لأن الملكية الخاصة كانت السبب الرئيس فيما نشهد من طفرة تقنية، ولكننى مؤمن أيضاً وبذات المستوى بدور الدولة فى الحياة الاقتصادية والإعلامية. فمجتمعنا له هويته الخاصة وقيمه التى ينبغى أن تتعمق لا أن تتبخر وتُهدَر، ولا يمكن لتلك القيم أن تترسخ وأن تتناقلها الأجيال ويتعرف عليها العالم إلا من خلال مؤسسات الدولة لا مؤسسات القطاع الخاص.
ومن هذا المنطلق، ورغم أن كلامى هذا قد يُقابَل برفض من المؤمنين بالحرية شبه المطلقة، إلا أننا نكتب للتاريخ، فإننى أدعو إدارة مصر الجديدة لإعادة النظر فى منظومتنا الإعلامية العامة والخاصة، بحيث يتم وضع ضوابط أكثر صرامة على الفضائيات الخاصة، ولا أعتقد أن ما يسمى بميثاق الشرف الإعلامى كافياً لتحقيق هذا الهدف.
نحن بحاجة إلى دور حقيقى للدولة، بحيث تتدخل عندما يكون هناك خروج سافر على قيم وثوابت هذا المجتمع، حتى تتحرك تلك الفضائيات فى إطار يراعى هدفها الرامى إلى تحقيق الربح، وفى نفس الوقت الصالح العام، الذى ينبغى تقديمه على أى مصلحة خاصة. والله أعلم.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
سلمت
سلمت
عدد الردود 0
بواسطة:
استاذى
وحشتينى يادكتور