فى أحد الدكاكين الخشبية القديمة التى اختبأت بين دهاليز شارع "المعز"، انحنى "خالد" أمام طاولته الصغيرة التى تناثرت عليها "عدة الشغل"، وتوسطتها صينية نحاسية مسطحة، انهمك فى نقشها بدقة و"مزاج" و"إيدين تتلف فى حرير"، بحركات ثابتة تعرف طريقها جيداً بدأت علامات الإبداع فى الظهور على قطعة النحاس اللامعة التى أعلنت عن موهبة وحرفة لا تقبل الشك، أما نظرات عينيه الثاقبة التى تحمل الكثير من التركيز فأظهرت حبه لمهنته التى تربى عليها وقرر عدم تركها مهما تدهورت أحوال أصحاب الحرف اليدوية الذين أخذت صنعتهم فى الانقراض شيئاً فشيئاً.
"خالد محمد السيد" هو أحد أبناء شارع "المعز" العريق الذى وقف على ناصيته التاريخ يلقى بالتحية على المارة ويملئ عبقه ثنايا الشارع الكبير الذى تدهور حاله بعد أن اشتهر كأكبر متحف مفتوح على مستوى العالم، فتناثرت به السيارة التى عطلت مرور الزوار وانطفأت أنواره المبهجة، وغاصت مساجده العريقة فى الظلام، أما أصحاب الورش والحرف اليدوية فأغلق معظمهم الأبواب، وترك المعدات، بحثاً عن لقمة عيش أخرى، بعد أن أخذت مهنتهم فى الانقراض، وطغت عليها المنتجات "الصينى" التى ملأت الأسواق، فاختفت الصنعة الحقيقية، وبدأ من توارثوها أباً عن جداً فى التفكير فى طريقة لمنعها من الاندثار، وهو ما دفع "خالد" لاستئجار ورشة صغيرة، ومحاولة تحويلها لمدرسة لتعليم الحرف اليدوية لمن يرغب فى احتراف "شغلانة مصرى أصيلة".
"أنا طول عمرى بشتغل الشغلانة دى، ورثتها عن أبويا اللى كان بيعلم الشباب الحرف اليدوية فى وكالة الغورى" يحكى خالد عن ذكرياته مع النقش على النحاس، ويقول "من بعد الثورة والمهنة بدأت تقل، والحرفيين اللى بجد سابوا الشغل عشان السياحة واللى جرالها.. حتى شارع المعز انطفت أنواره وتدهور حاله".
"خالد" ومجموعة من أصحاب 5 من الحرف اليدوية الذين شجعهم على الانضمام إليه للدفاع عن مهنتهم التى أوشكت على الانقراض، ويكمل "أقنعت عدداً من أصحاب الورش لفتح مدرسة لإعادة تعليم الأجيال الجديدة عدداً من الحرف اليدوية، وهى الحفر على المعادن، وتقطيع الأركت أو التفريغ اليدوى، التربيص، الألوان، وغيرها من الحرف التى بدأت فى الاندثار فى وجه تدهور السياحة، وانتشار المنتجات المقلدة والبضائع الصينية الملونة التى غزت الأسواق، والمشكلة الأكبر هى انقطاع الشباب عن الإقبال على تعلم الحرف المصرية الأصيلة، وهو ما يثير القلق حول اختفاء هذه المهن شيئا فشيئاً.
ويقول خالد عن محاولات إنشاء المدرسة من بعد الثورة، "مبادرتنا باءت فى الفشل"، ويضيف: بعد محاولات مع المسئولين فى تمويل المشروع فشلنا بعد تدهور حال شارع المعز، واختفت زهوة حى الحسين".
"خالد" الذى حاول أكثر من مرة استكمال المشروع لتعليم الأجيال الجديدة الحرف اليدوية، استأجر ورشة صغيرة أمام قصر الأمير بشتاك وأغلقها فى انتظار "الفرج".
"أنا قضيت حياتى فى الفن والإبداع، هى مش بالنسبة لى مصدر رزق، بل هواية وعشق، وهفضل أحلم بالمدرسة اللى ترجع شارع المعز لتاريخه".
خالد فى ورشته
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة