المجتمع منقسم.. منذ أن دُعى للإدلاء بصوته فى استفتاء 19 مارس 2011 بشأن التعديلات الدستورية، ومن لا يرى انقسامه فإنما ينظر إلى مجتمع آخر أو ربما مجتمع فى خياله. لكن الانقسام ليس دائما أمرا سيئا، وإنما هو فى أحيان كثيرة أمر شديد الإيجابية؛ فالأمر يتعلق بالتمييز بين توظيف الاختلاف أو باستغلاله، ورأيى أن النخبة السياسية استغلت اختلاف المصريين لصناعة أدوار لها وللحصول على موطئ قدم فى معادلة الحكم أو على الأقل للبقاء فى الصورة الأساسية التى يراها الناس، صباحا على صفحات الجرائد، ومساء على شاشات التليفزيونات.
فالمجتمع المصرى قديم قدم الحضارة، وهو من ثم ليس مكونا من كائنات مستنسخة من بعضها البعض، وإنما هو يشكل نسيجا واسعا ثريا وغنيا فى أشكاله وألوانه وخبراته وهو ما ينعكس غناء وثراء فى الآراء والاجتهادات والميول.. ولا أعجب أن يصبح كل مصرى فقيها دستوريا ومحللا سياسيا وخبيرا عسكريا، فهو يعبر عن خبرات حملتها جيناته وأجيال تمتد فى التاريخ امتداد عمر الدولة المصرية.
لكن النخبة المصرية ورثت عن النظام السابق اهتمامها أولا بمصالحها وثانيا بمظهرها وموضعها فى أى معادلة، ومن ثم تسعى فى كل لحظة إلى تحقيق انتصار ما على الآخر أو التعليم عليه بأنه وقع فى خطأ ما؛ بغض النظر عما إذا كان الآخر تيارا فكريا شقيقا أو حزبا سياسيا رفيقا أو كل الوطن ذاته؛ فهذه النخب تفتقد أهم مقومات نجاحها فى قيادة شعبها، وهو قيمة التواضع والشعور بأن الشعب الذى تمثله هو من يأتى أولا لأنه مصدر وجودها وقيمتها، وأن انهزامه لا قدر الله فى معركة التحول الديمقراطى هو انهزام للجميع وعلى رأسهم النخب السياسية والتى ستعود لممارسة دورها الديكورى أو لتحتل مواضعها فى السجون كما كان سابقا فى نظام مبارك.
وليس معقولا، فى أى بلد، أن يتحول كل استحقاق وكل حدث إلى معركة يجب أن يكون فيها منتصر واحد، ومنهزمون كُثر؛ وآخر تلك المعارك معركة البرلمان وحله، والدستورية العليا وحكمها والمجلس العسكرى وسلطته «التشريعية» والرئيس وقراره الصاخب وتراجعه عنه.
ففى تلك المعارك لا وجود إلا لمنتصر واحد، ربما نختلف، كما نختلف دائما، عمن هو المنتصر ويكون الأسهل هو الانتقال إلى إحصاء الخسائر، ويأتى على رأسها: قيمة السلطة التشريعية التى لم تكن تسقط إلا بالعودة لإرادة الشعب، فإذا بنا نكتشف بعد ثورة يناير المجيدة أنه يمكن إسقاط مجلس الشعب بحكم قضائى، لا بل بقرار إدارى.. ومن يعتقد أن من شغل مقاعد مجلس الشعب تضرر من حله فهو واهم، فهؤلاء قد يعود كثير منهم غدا لشغل ذات المقاعد أو أقل أو أكثر؛ أما من لحقه الأذى ويصعب علاجه فهو قيمة مجلس الشعب وهيبة السلطة التشريعية التى تحصنت فى كل الدنيا من أن يحلها قضاء أو يقصف عمرها حاكم، فضلا على أن يحوزها مجلس عسكرى، فإذا بذلك يحدث فى مصر بعد ثورة شعبية ضُرب بسلميتها المثل.
وضمن الخسائر أيضا يمكن أن نرى الضرر وقد لحق قيمة ودور واستقلال وحيادية القضاء.. فالسيدة التى على عينيها عصابة والتى تشير إلى العدالة سقطت العصابة عن عينيها، وأصبحت تجتمع سريعا لاتخاذ مواقف سياسية قبل أن تعلن رأيها فى صورة حكم قضائى دون أن تنتظر إلى حضور المتخاصمين إليها.. وإلا فأى منطق يفسر اجتماع الجمعية العمومية للمحكمة الدستورية يوم أصدر الرئيس قراره بسحب قرار المجلس العسكرى بحل مجلس الشعب وقبل أن يتصل ذلك بعلمها بالطريق الذى تعلمنا أنه الأوحد الذى يتصل به القاضى بالنزاع، وهو الدعوى؟ وبما نفسر تصدى المحكمة لطعن فى قرار رئيس الجمهورية، وهى من أعلن يوما فى حكم سابق لها أنه من أعمال السيادة؟ وإذا كانت قد غيرت رأيها واعتبرته قرارا إداريا فما كان لها أن توقفه وليس لها أن تلغيه وإنما تحيل الدعوى لجهة الاختصاص، وهو قضاء مجلس الدولة العريق وقلعة الحريات والمختص بنظر الطعون على القرارات الإدارية. وبما نفسر سكوت المحكمة الدستورية العليا، وعدم اجتماع جمعيتها العمومية عندما قرر المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يحوز السلطة التشريعية دون تفويض شعبى، وأن يجعل للمحكمة الدستورية العليا حق رفض مقترحات الدستور بقرارات ملزمة. هل تعلم الدستورية العليا سابقة فى تاريخنا الوطنى أو تاريخ الأمم تكون فيها محكمة ما، أيا كانت درجتها، رقيبة على أعمال الجمعية التأسيسية؟
وخسارة أخرى مفجعة نالت مكانة رئيس الجمهورية وهيبته كحكمٍ بين السلطات، فإذا كان البعض يأمل فى نظام برلمانى يكون فيه الرئيس رمزا سياسيا دونما سلطة يحوزها، فقد أصبح لدينا هذا النظام باختلاف بسيط، هو أنه لا وجود حتى لبرلمان، وإنما أصبحت جهات أخرى تقتسم السلطة فى البلاد وتحجر على الجهات المنتخبة بأصوات الشعب مباشرتها.
وربما يتفق معنا البعض حول التساؤل عن مدى نجاعة إصدار الرئيس القرار الذى تراجع عنه لاحقا، فهو لم يكن ضمن المسائل ذات الأولية التى ننتظر أن يتصدى لها، وأولها تشكيل وزارة ترأسها شخصية مستقلة عن الرئيس وعن غيره وبما يحقق توافقا واسعا على مشروع سياسى للخروج من تلك المرحلة التى احترنا فى تسميتها بين انتقالية أو ارتباكية أو حتى ربما انتقامية. وكان أيضا على السيد الرئيس أن يبدأ بالتصدى لمشكلات حالة وحرجة كالإفراج أو العفو عن المحكومين والموقوفين بأحكام وقرارات القضاء العسكرى من المدنيين، وأن يتخذ بعد التشاور مع القوى المختلفة والمختصين بعض إجراءات تحقق درجة مقبولة من العدالة الاجتماعية.
وأخيرا فإنه ينتظر تحركا فى الاتجاه الصحيح من الجميع، ناظرا إلى شهر رمضان المعظم ربما جعله الله بداية توافق بين كل النخب وكل القوى واتفاقها على تحقيق مصلحة الشعب وتجنيب المصالح الحزبية والمؤسسية ولو لحين حتى نضرب مثلا بتحولنا للديمقراطية وتحقيق معدلات عالية للنمو ومواجهة حاجات الناس الضرورية، كما كنا مثلا فى ثورتنا ورونقها وسلميتها.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
مصري المصري
الوطن يحتاج للشرفاء من أمثالك يا محسوب
فوق
عدد الردود 0
بواسطة:
الرحيق المختوم
لا تعليق دكتور محمد كل يوم ازداد اعجابا بك
ياليت قومى يعلمون
عدد الردود 0
بواسطة:
ehab gad
كلامك صح يا أستاذ
عدد الردود 0
بواسطة:
الرباط المصري
حكومة كفاءات لا حزبيات
عدد الردود 0
بواسطة:
مواطن مصري
بالضبط!
عدد الردود 0
بواسطة:
عثمان
رجل عظيم
عدد الردود 0
بواسطة:
حسام
رجل عظيم ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
عدد الردود 0
بواسطة:
Mustafa El-Nagar
رد على التعليق 5 و 7
عدد الردود 0
بواسطة:
حسام
رد علي التعليق 8
عدد الردود 0
بواسطة:
شاكر
هل عدنا لسيد قراره و اعمال السياده؟