صلاح عيسى

هرباً وجع الدماغ

فى وداع الرجل الذى فصلنى لمدة عشر سنوات

الخميس، 29 مارس 2012 10:41 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى أول يناير 1975 أضرب عمال عدد من مصانع منطقة حلوان الصناعية القريبة من القاهرة، بسبب مطالب لهم تتعلق بالأجور والعلاوات لدى حكومة «د.عبدالعزيز حجازى» التى كانت تتولى الحكم آنذاك وقاموا بمظاهرة وصلت إلى قلب العاصمة، حيث حطموا الواجهات الزجاجية لبعض المتاجر الكبرى، وهتفوا: «حكم النازى ولا حكم حجازى».. وفيما بعد قال «د.حجازى» إن الذى دبر هذه المظاهرات هو «ممدوح سالم» وزير الداخلية فى حكومته لكى يحل محله فى رئاسة الوزراء، وهو ما حدث بالفعل بعد شهور، وعلى سبيل التعمية قامت مباحث أمن الدولة - فجر اليوم التالى - بحملة اعتقالات واسعة، شملت العناصر النشطة من الطلاب وعددا من اليساريين الذين كانوا يقودون المعارضة ضد حكم الرئيس السادات، كنت أحدهم واتهمتهم فى البداية بتدبير المظاهرات، ثم قالت فيما بعد إنه لا صلة لهم بها، وأنها قبضت عليهم من باب الاحتياط وحتى لا يستغلوا المظاهرات لصالحهم.
ولم يكن الصراع على السلطة فى جريدة «الجمهورية» التى كنت أعمل بها آنذاك أقل حدة من الصراع داخل الحكومة، إذ كانت قد تشكلت جبهة من محرريها ينتمون فى معظمهم إلى اليمين تناصب رئيس مجلس إدارتها وتحريرها «مصطفى بهجت بدوى» العداء وتتهمه بأنه ناصرى وأنه يجمع حوله الناصريين واليساريين وتطالب بتطهيرها من هذه الطغمة من فلول «مراكز القوى»، وهو الوصف الذى كان يطلق على شركاء السادات فى السلطة من ورثة عبدالناصر الذين كان قد أقصاهم عنها فى 15 مايو 1971 - لكى يحلوا محلهم باعتبارهم من «المايويين» ممن يساندون ثورة التصحيح التى يقودها الرئيس المؤمن «محمد أنور السادات» بطل الحرب والسلام.
وكان اليمين المصرى يسعى آنذاك للسيطرة على الصحف القومية، بعد عودة الأخوين «على أمين ومصطفى أمين» ليرأس الأول تحرير «الأهرام» ويدخل فى صراعات عنيفة مع محرريها الذين كانوا يدينون بالولاء لـ«محمد حسنين هيكل»، ويرأس الثانى مجلس إدارة «أخبار اليوم» ويتخذها منصة لشن الحملة على العهد الناصرى، ولم تبق إلا «الجمهورية» وهى جريدة الثورة التى أسسها «جمال عبدالناصر»، وكانت تزدحم بفسيفساء من المدارس الفكرية، تجمع بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، وبين كتاب من الوزن الثقيل، بينهم عدد ملحوظ من اليساريين، وبين شاويشية وصولات وضباط سابقين، انضموا إلى أسرة تحريرها بتوصية من الإدارات المتقلبة التى تعاقبت عليها خلال العهد الثورى، كان بينهم عدد ملحوظ من عتاة اليمينيين. وكنت لا أزال سجينا حين صدرت حركة تنقلات لرؤساء تحرير الصحف القومية جمعت بين الأخوين «على ومصطفى أمين» فى «دار أخبار اليوم» التى أسساها لتصبح منبرا لليمين، وجاءت بـ«أحمد بهاء الدين» لرئاسة تحرير «الأهرام» لتكون منبرا للوسط، وأنهت الصراع على السلطة بين «المايويين» و«فلول مراكز القوى» فى «الجمهورية» بنقل «مصطفى بهجت بدوى» كاتبا بـ«الأهرام» وتشتيت عدد من الكتاب اليساريين، وعدد من زعماء «المايويين» إلى دور صحفية أخرى، وتعيين «عبدالمنعم الصاوى» رئيسا لمجلس الإدارة، و«محسن محمد» رئيسا للتحرير و«إبراهيم الوردانى» مديرا للتحرير، وكانت تلك هى المناسبة التى عرفت فيها «محسن محمد» - الذى غادر عالمنا هذا الأسبوع- إذ لم أكد أغادر السجن حتى دعانى للقائه.. ومع أننى كنت مشحونا بالغضب لأنه كان قد ألغى القسم الذى كنت أعمل به، والعمود الذى كنت أكتبه، إلا أنه استقبلنى ببشاشة وعاملنى بمودة، وبرحابة صدر، وألمح إلى أننا نحن اليساريين، مازلنا عاجزين عن رؤية حقيقة أن الدنيا قد تغيرت، وشرح لى خطته فى تطوير «الجمهورية» التى كان توزيعها قد تدهور، لكى تستطيع أن تجذب إليها قراء يختلفون عن قراء «الأهرام» و«الأخبار» اللتين لا قبل لها بمنافستهما بتحويلها إلى صحيفة خدمات، بتخفيف الطابع السياسى لها، إلاّ فيما يتعلق بالنواحى الإخبارية! ودعانى إلى معاونته فى الحدود التى لا تجلب له وجع الدماغ.
ومع أننى لم أتحمس للخطة، إلاّ أن «محسن محمد» نجح فعلاً فى أن يرفع توزيع «الجمهورية»، وفى أن يجد لها مكانا ملحوظاً فى سوق القراءة، وأثبت أنه صحفى موهوب، وصانع صحف مقتدر، ومع أن التعاون بيننا لم يستمر إلاّ أن علاقتى به لم تنقطع، وكان أحياناً يبثنى همومه، مما يلاقيه من التعامل مع الرئيس «السادات» الذى كان يضغط عليه لكى يمنع «كامل زهيرى» من الكتابة، فكان يعده بأن يتخلص منه فى أول فرصة، دون أن يكون فى نيته أن ينفذ شيئاً من ذلك، إذ يعتقد- كما يقول- أن كامل زهيرى كاتب مقتدر لا تستطيع «الجمهورية» أن تستغنى عنه، ومع أنه لا يطيقه كما لا يطيقنى، ومما يعانيه من المحررين الذين يكتبون تقارير ضده لأجهزة الأمن، فإنه كان واثقاً كما كان يقول- من أننى لن أبلغ عنه.. وكنت ألاحظ أنه فيما يكتبه بقلمه، يتعمد أن يبتعد عن الكتابة المباشرة فى السياسة، إلا إذا لم يكن هناك مفر من ذلك.. وفى أحيان ليست قليلة، كان يكتب آراء معارضة، مكتفياً بأن يمارس المهنة التى يحبها بعيداً بقدر الإمكان.. عن وجع الدماغ.
وكان يجمعنا شغفنا المشترك بالكتابة فى التاريخ العربى الذى كتب «محسن محمد» عدداً من أهم الكتب عن بعض مراحله، استعان فيها بوثائق التاريخ المصرى فى الأرشيف البريطانى وجمع فيها بين التعمق فى البحث واللغة الصحفية الجذابة، فضلا عن منهج وطنى فى رؤية الظواهر السياسية، ولعل ذلك يعود إلى أنه كان عضوا فى الحزب الوطنى القديم الذى أسسه مصطفى كامل، فى مطلع شبابه قبل الثورة، وعلى نحو ما بدا لى وكأنه مصاب بلطشة يسارية، يحاول أن يخفيها تجنبا لوجع الدماغ، الذى جاهد لكى يتوقاه، لكنه مع ذلك لاحقه على امتداد حياته الصحفية.
ومع أنه فصلنى من عملى فى «الجمهورية» لمدة عشر سنوات، وقاوم عودتى إليه حين تهيأت الظروف، فإن علاقتى به لم تنقطع، إذ كنت أعتقد أنه كان مضطراً لذلك، على الرغم من أنه أكد لى أنه فصلنى بإرادته الحرة ودون إملاء من أحد، لأنه لا يحب وجع الدماغ! وفى الأسبوع الماضى استراح «محسن محمد» من وجع الدماغ.. وغادر الدنيا.





مشاركة




التعليقات 1

عدد الردود 0

بواسطة:

السنوسي

رأي القاريء !!

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة