لم أجد فكرة انتشرت بهذه الكثافة والانتشار الجماهيرى الواسع سوى الدعوة للعصيان المدنى، وذلك بسبب الهجوم التتارى الممنهج الذى استخدمت فيه أغلب - إن لم يكن كل - أدوات الانتشار ومضامينه المختلفة سعيا نحو فكرة خبيثة هى إجهاض العصيان المدنى، فقد أتى هذا الهجوم المنظم بنتائج عكسية تماما، حيث انتشرت الفكرة وسط الشعب المصرى الذى بدأ يتحدث عنها من كل جوانبها حتى أصبح هناك فريقان الأول مع الفكرة، والثانى ضد الفكرة، وقد ثبت أن اهتمام الشعب بالفكرة، خصوصا الأوساط الشبابية والمهتمة من الأعمار المختلفة، وصل إلى حد اقتحام نحو «5» ملايين مواطن مصرى موقع «جوجل» لمعرفة موضوع «العصيان المدنى»، خلال عدة أيام، وسط الحملة المضادة لهذه الفكرة، فالرأى العام المصرى لم يعد بالسذاجة أن يسير وراء محاولات تزييف وعيه مثلما كان سابقا، ويعرف أيضًا من هم الأشخاص الرموز الذين يثق فيهم الشعب ويستمع إليهم ويصدقهم، ومن هم على العكس من ذلك.
ولذلك أستطيع جازما أن أقول إن «الإعلام المضاد» لفكرة «العصيان المدنى» هو الذى روج لها وساعد على انتشارها، وكذلك كان التوظيف السياسى الخاطئ للدين من جانب السلطات الرسمية، بالإعلان الرسمى عن «تحريم العصيان المدنى» مثلما حدث على لسان «الأزهر، ودار الإفتاء»، بعد أن أعلنا تطهرهما من النظام السابق، فوجئنا بهما يعودان لممارسة الدور السابق فى توظيف الدين فى «التحريم» لأفكار مدنية، والتعبئة لمساندة الحكومة والمجلس العسكرى، باعتبارهما ضد الفكرة، وهو الأمر الذى سيفقدهما مصداقية الشعب مرة أخرى بعد أن بدأ الشعب يسترد ثقته فى هاتين المؤسستين، كذلك حدث مع الإعلام القومى ممثلا فى «الصحف - الإذاعة - التليفزيون»، فبعد أن بدأت العجلة تدور فى التعامل مع هذا الإعلام باعتباره ملكا للشعب، واعتباره إعلاما قوميا، تراجع بنفس الدرجة إلى سابق عهده فى الهجوم المضاد لفكرة «العصيان المدنى» وغيرها من أفكار ثورية ليعود إلى سيرته الأولى ملكا للرئيس «المجلس العسكرى»، والحكومة، ليصبح «إعلاما حكوميًا وليس شعبيًا»!!
والمؤكد أنه بقراءة بسيطة فى الصحف للعناوين والمانشيتات، وبرامج الإذاعة والتليفزيون، يتأكد التراجع الشديد لما قبل الثورة، الأمر الذى ينذر بمخاطر شديدة على الثورة، وذكرتنا بما كان سابقا، وأكدت لنا هذه الممارسات الجديدة، استمرار نظام مبارك بسياساته، نتيجة استمرار رموزه التى تتراجع أحيانا وتنحنى أمام عاصفة الثورة فتكمن إلى أن تجد الفرصة لتنقض على الثورة والثوار ورموزها وأفكارهم.
> كما تراوحت وسائل الإعلام الخاصة بين مواقف مختلفة حسب علاقة صاحب الوسيلة التى لعب دوراً فى توجيهها، بكل من المجلس العسكرى والحكومة، والأغلب أنها سارت فى نفس منهج «الإعلام الحكومى» باستثناءات محدودة.
> ومن دواعى الأسف أن يصل بنا الحال بعد عام من الثورة، لتجريم الثورة، والثوار وأفكارهم، وكأن الثورة لم تحدث، حتى الذين وصلوا إلى البرلمان خصوصا تيارات الإسلام السياسى عارضوا فكرة العصيان المدنى - رغم أن جزءًا منهم محسوب على الثورة فى مراحلها الأولى حتى أعطى ظهره لها سعيا نحو مكاسب سياسية، وقد لمست مدى الحرص على المصالح الشخصية ممن وقفوا ضد هذه الفكرة بدلا من تنفيذها والرد عليها ومناقشتها مناقشة موضوعية فى سياق أنها أحد الأفكار الثورية، وهؤلاء هم الذين يرون فى استمرار نظام مبارك ودستوره وسياساته الملاذ الآمن لهم ولمصالحهم، وأن كسب رضا المجلس العسكرى والحكومة هو الخيار الآمن وقد ذكرنى ذلك بمواقف هؤلاء عند اندلاع الثورة بتأييدهم لحسنى مبارك، وعندما شعروا أنه فى طريق السقوط حاولوا أن يلحقوا بركب الثورة ربما تنقذهم وهؤلاء انكشفوا الآن، أنهم يكرهون الثورة، ويترقبون لحظة الانقضاض عليها وعلى الثوار، وليس من عجب أن نرى المشانق تنصب للثوار والرموز الشريفة، بدلا من أن تنصب لحسنى مبارك وعصابته التى تبدأ من أسرته ورموز حكمه الذين عاثوا فى الأرض فساداً ونهبوا مقدرات الوطن!!
> وفوق هذا وذاك، فإنه قد نشر على لسان البعض اتهامات لأصحاب الفكرة بـ«الخيانة العظمى»، والتآمر ضد الوطن، وتخريب البلد.. إلخ، مسلسل الاتهامات الجاهزة، وهى لا تصدر إلا من القوى المضادة للثورة، والعجيب أن يقول البعض أن الذين فكروا فى العصيان المدنى هم «الثورة المضادة»!! وهو الأمر الذى لا يوصف إلا بصفتين «الجهل والغباء» وهو ما يفسر لنا مشهد الصورة التآمرية على الثورة من هذه القوى المضادة حقا للثورة.
> ولتوضيح ذلك إلى السادة القراء الذين أحترمهم ما يلى:
أولا: مفهوم «العصيان المدنى»
هو «وسيلة سلمية يقصد بها تصعيد الاحتجاج الشعبى ضد أمر أو موضوع معين للرجوع عنه من السلطات العامة للدولة، وقد يكون لفترة محددة من الوقت وقد يمتد ويكون مفتوحا دون تحديد سقف زمنى له»، وهو أيضًا بمثابة الإضراب الشامل فى مناحى الحياة الرئيسية القصد منه إشعار من بيدهم الأمر بخطورة اختياراتهم فى حكم البلاد، وعليه ضرورة إلغاء مثل هذه السياسات التى يراها الشعب أنها خاطئة، وعندما نتأمل هذا المعنى نجد أنها وسيلة احتجاجية تعبر عن الغضب الشعبى من نظام الحكم المستبد ورموزه، والغرض من ممارستها توصيل رسالة قوية لمن بيدهم الأمر، إما «الرجوع أو الإسقاط».
كما أنها وسيلة سلمية خالية من العنف، ومن ثم فهى وسيلة واجبة الاحترام، لأنها وسيلة ديمقراطية يؤكد الداعون لها أنها تعبر عن ضمير الشعب وطلباته حال تفاعلهم معها.
وقد يسبق هذه الوسيلة الاحتجاجية المهمة، وسائل احتجاجية أقل، ومنها المظاهرات والاعتصامات والإضرابات الجزئية، فضلا عما ابتكرته ثورات الربيع العربى وفى المقدمة الثورة المصرية «المليونيات».. وهى فكرة ابتكارية كانت تأتى بمكاسب حال انتهائها أو حتى قبل تنفيذها بساعات وحيث إن أصحاب السلطة يبحثون عما يدعمهم وعن مصالحهم من الأغلب، فإنهم لا يستجيبون بسهولة إلا تحت الضغوط الشعبية بينما شاغلو المواقع الرسمية عندما يعملون للصالح العام الذى هو بكل تأكيد تعبير عن الأغلبية العظمى للشعب، فإن هذه الظواهر الاحتجاجية تتراجع بشدة وقد تعبر عن نفسها فى مظاهرات محدودة وفى موضوعات أشبه بالرفاهية عندما ننظر إليها فى عالمنا المتخلف والمستبد - حتى الآن - كالمظاهرات ضد التلوث، وضد الحروب النووية، وضد موضوعات خارجية، وحرية الشواذ... إلخ، ولا يستطيع أحد أن يجاهر بمعاداته لهذه المظاهرات المحدودة أو السخرية من مطالبها، لأن ذلك ضد الممارسات الديمقراطية، فما بالكم لو وصل الأمر إلى تخوين هؤلاء، لحدثت كارثة فى المجتمع، وهو عكس ما يحدث فى بلادنا بكل أسف ولأن القائمين على حكم البلاد، لا يريدون أن يفهموا، فإن الاحتجاجات تتصاعد حتى تصل إلى «العصيان المدنى»، باعتباره أعلى وأقوى هذه الوسائل الاحتجاجية وقد يصل الأمر إلى ثورة شعبية عارمة قد تكون سلمية أو عنيفة حسب مقتضى الحال.
ثانيا: الممارسات المختلفة للعصيان المدنى:
كان للعصيان المدنى ممارسات فى الواقع العملى، أدت إلى نتائج إيجابية.. فقد شهدت الهند بقيادة الزعيم غاندى، محاولات للعصيان المدنى، نجحت فى تحرير الهند من الاستعمار الإنجليزى وإسقاط حكوماته العميلة والاحتفاظ بثروات البلاد ملكا للشعب الهندى، كذلك شهدت جنوب أفريقيا نماذج للعصيان المدنى حتى تحررت من النظام العنصرى، بزعامة نيلسون مانديلا، الذى لم يعوّق اعتقاله وسجنه نحو ثلاثين عاما استمرار العصيان حتى تحققت الأهداف المطروحة وخرج مانديلا من السجن إلى رئاسة الدولة زعيما حظى - ولازال - باحترام شعبه والعالم الحر، حتى أمضى فى الحكم فترة واحدة ولازال يناصر الحرية والثورات العربية والتحرر العالمى حتى الآن.
كما شهدت أوروبا الشرقية نفس محاولات العصيان المدنى، وحتى بعض بلدان أوروبا الغربية، وكذلك الجزائر كوسيلة مقاومة ضد الاستعمار الفرنسى.
وفى مصر شهدت عصيانا مدنيا خلال ثورة 1919، نتيجة لمحاولات إجهاض حتى تم تتويج سعد زغلول زعيما للثورة، وإلى أن تم وضع دستور 1923 وخلال الأيام الأولى للثورة المصرية فى 25 يناير 2011 وحتى 11 فبراير، مارس الشعب المصرى عصيانا مدنيا واسعا حيث امتنع عن الذهاب للعمل والدراسة، وظل الشعب متظاهرا ومعتصما ومضربا عن العمل بالملايين حتى تم إسقاط الطاغية حسنى مبارك وحاشيته.
ومازلت أذكر بالاعتصامات والإضرابات والمحاولات المبكرة للعصيان المدنى فى الأعوام الثلاثة السابقة على الثورة «2008 - 2011» تؤكد جميعا أن إرهاصات الثورة كانت قائمة ولم تأت الثورة من فراغ، ومن ثم فإن الذى يرى أن الدعوة للعصيان المدنى هى فكرة جديدة على الشعب المصرى، يجهل أو يتجاهل الحقائق، فهو يسعى لتزييف الوعى الشعبى، وينافق الحكام الجدد الذين أتى بهم حسنى مبارك خلفاءً له وليس باعتبارهم قوى داعمة للثورة كما يسوقون للشعب، كما أن من يتهم الآخرين بالخيانة هو الخائن.
ثالثا: التحديات والآفاق:
لا شك أن هذه الدعوة للعصيان المدنى هى دعوة لتذكير الشعب بثورته باستمرار وتذكير له بأن قدراته وصلت إلى خلع مبارك وحاشيته الفوقية، وإنه قادر على تطهير البلاد من رموز مبارك، وقادر على إجبار السلطات أن تنفذ إرادة الثورة وتحكم بها وإلا فإنه سيسحب الشرعية من هذه السلطات حتى لو كانت منتخبة مثل «مجلس الشعب»، ومن ثم فهى دعوة هادفة لتحقيق مطالب بعينها، وفى مقدمة هذه المطالب تسليم السلطة من المجلس العسكرى إلى سلطة مدنية، قد تكون لرئيس مؤقت وبشكل عاجل، أو لمجلس رئاسى مدنى مع حكومة إنقاذ وطنى جديدة تشرف على انتخابات الرئيس المؤقت.
وذلك حتى لا تجرى الانتخابات الرئاسية أو وضع الدستور الجديد فى ظل سلطة المجلس العسكرى، مع التطهير الشامل لنظام الحكم من رموز مبارك التى مازالت تحتل نحو 90٪ من مواقع الدولة الأولى والعليا فى البلاد، فضلا عن عدم اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتحقيق العدالة الاجتماعية حتى الآن.. إلخ.
وفى ضوء ما سبق فإن هذه الدعوة للعصيان المدنى هى دعوة سلمية تتفق وأهداف الثورة ومتطلباتها، وليس مقصوداً بها هدم الدولة، وليس مقصودا بها هدم مؤسساتها أو ضرب اقتصادها كما يزعم البعض وكأن الاقتصاد الآن جيد، أو اقتصاد مبارك كان كذلك، وينسى هؤلاء أن إعادة «المنهوب» من الأموال كفيل بتحقيق العدالة الاجتماعية، ومصادرة المخالف للقانون فقط قد يجعل اقتصاد البلاد قويا، وأن فرض ضريبة تصاعدية على رجال الأعمال باسم ضريبة الثورة خير وسيلة لتحقيق متطلبات الثورة.
ومن ثم هى ليست دعوة «مشبوهة» كما أطلق عليها البعض من أصحاب النوايا السيئة والمنافقين القدامى والجدد، كما أن هذه الدعوة لا يمكن أن تتعارض مع الدين وهى وسيلة سلمية، ولم يكن هناك مبرر لإقحام الدين فى مثل هذا الأمر، ومن ثم أعطى هؤلاء شرعية لمن يسيّس الدين!!
فالدين «حلال وحرام» فيما يتعلق بأركان الإسلام الخمسة، وما عدا ذلك، فهناك اجتهادات بالرأى، وإلا أصبح التوظيف السياسى للدين آلية تضر بالدين نفسه ونحن نحذر من ذلك حالا ومستقبلا، وهو تحد يجب أن نتجاوزه حرصا على الصالح العام.
كما نحذر من تضخيم التداعيات، كأن يذكر أحد الكتاب أن ضرر اليوم الواحد فى العصيان المدنى هو «5» مليارات جنيه!! ولو كان هذا صحيحا لما كانت مصر على هذا الحال المتدنى من سوء مستويات المعيشة، ولما اعتبر أن النهب المنظم هو الأصل، والفتات للشعب فهل يظل المصريون يعملون فى خدمة «الأسياد اللصوص» مقابل فتات العيش بعد ثورة 25 يناير؟! أم يسعى المصريون إلى التطلع لتحقيق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.. إن العصيان المدنى هو وسيلة سلمية ناجحة يشعر بأهميتها الشعب ونجح الأعداء فى ترويجها للشعب المصرى الذى تلقف الدعوة وينفذها بإرادته وطريقته والزمن الذى يحدده، وسيلة الشعب فى انتزاع حقوقه وإنجاح ثورته رغم الكارهين والقوى المضادة، ومازال الحوار مستمرا ومتصلاً..