فى إحدى القرى الصغيرة بمدينة بنى سويف، ولد بين أسرة فقيرة تبتعد كل البعد عن دائرة الحكم والحكام، بل كانت واحدة من أكثر الأسر التى واجهت ظلم الحكام مثلها مثل معظم أهل قرى المحروسة الفقيرة الذين لم يجدوا فرصة تعليم جيدة، أو رعاية صحية مناسبة، أو حتى مهنة تضمن الحد الأدنى من الحياة الكريمة، ولكنه على الأقل عاش حتى أصبح شابا بين أهل قريته السعداء، رغم فقرهم، يسير حياته كحداد مسلح حتى تم طلبه للتجنيد.
من تحت الخوذة الثقيلة التى استقرت فوق رأسه، بجانب درع بلاستيكى يمسكه للمرة الأولى، مع البذلة السوداء التى سيقضى مدة تجنيده بها كانت عيون محمد ناصر مجند الأمن المركزى الجديد تراقب المجموعة التى وقفت تهتف ضد النظام، دون أن يجد بهم ما يفرقه عنه غير هذه الأشياء التى ارتداها، فهؤلاء مثلهم مثله ومثل أهل قريته وأصدقائه الذين يجالسهم للمرح، ولو بأقل القليل، مهما اختلفت آراؤهم السياسية -إن وجدت- فجميعهم كان يريد الخير لمصر على طريقته، وإن كانوا يهتفون ضد الظلم فهو مثلهم يكره الظلم الذى عانى منه ربما أكثر منهم.
الاشتباكات لم تكن كبيرة وقتها مجرد بعض الحجارة التى تلقى هنا وهناك، دون أن تصيب أحدا خلال الأحداث الأخيرة "إحنا مش يهود بنضرب بعض يعنى" يقولها، وهو يشرح ما كان يراه، ولكن بعد أن أشعل بعض المتظاهرين كاوتش عربة وأرسلوه نحوهم كانت مهمته هى إطفاء الكاوتش دون أن يلحظ تراجع باقى زملائه، حتى حوصر مع عدد قليل من العساكر، ويقول الشاب الذى أصيب بكسر فى عظام العين "وقتها حسيت إحساس غريب معرفش إزاى الناس كانت بتضربنا كده بالشوم والحجارة وإحنا ما نعرفش ذنبنا إيه غير أننا واقفين أمام الأماكن المطلوب منا حمايتها".
"بقيت أقولهم إحنا مصريين ذى بعض وبنتكلم ذى بعض" يقول الشاب الذى كان بالنسبة للمتظاهرين فى هذه اللحظة هو خيال مآتة النظام الذى يكرهونه، وإن كان هو شخصيا لا يعرف عن هذا النظام أى شىء، لا من الداخل ولا من الخارج، غير البذلة التى يرتديها، ليجد كل من كان له مطلب أو تظلم، أو حتى جرح جراء شهادة أحد زملائه، يصبه فوق جبينه وعظامه الهشة مرة بالحجارة والأخرى بالشوم حتى أصبح الآن راقدا بسرير أحد مستشفيات وزارة الداخلية.
"محمد" حالة لم يختلف عن حال معظم جنود الأمن المركزى الذين كانوا يزاملونه فى المستشفى جراء الأحداث الأخيرة، فحجارة المتظاهرين التى كانت موجهه ضد حكام النظام من الوزراء وحتى الرئيس لم تستطع أن تصل سوى لهؤلاء المجندين الذين إن كانوا الآن لا يملكون الحق فى الإفصاح عن آرائهم فهم لم يختلفوا عنهم فى المعاناة من فساد نظام دام ثلاثين عاما سوى البذلة التى كانت تعتلى أكتافهم.
"هرجع القرية بتاعتى وهكمل شغل فى صنعتى اللى أعرفها" يقول محمد عن خططه البسيطة للحياة التى لا يطلب منها سوى الستر بعد أن يقضى مدة تجنيده المتبقى فيها عامين ونصف من الآن لن يأخذ منها سوى البعد عن أهله وتعطيل حياته هذه المدة، وتقول مسئولة رابطة زوجات ضباط الشرطة رشا كامل، والتى كانت قد نظمت زيارات لهؤلاء المجندين والمصابين "المشكلة الحقيقية الآن أنه بالرغم من ما يتعرض له هؤلاء المجندون من ظلم وغيرة يستخدمهم الإعلام لإلقاء كل اللوم عليهم، وكأنهم جنود جيش يحاول احتلال مصر، فإذا كانوا يعرضون حياتهم للخطر لتأمين المنشآت وغيرها، فيجب أن يشكروا لا أن تتم مهاجمتهم ليل نهار".
"محمد" عسكرى الأمن المركزى.. بلا ذنب تحمل كل الحجارة الموجهة للنظام
الإثنين، 03 ديسمبر 2012 03:03 م