عاد الاستقطاب للشارع المصرى، وهو دائما موجود، لكنه اختفى استثناء، خلال الثمانية عشر يوما للثورة المصرية الطاهرة، ويختفى، أحيانا، على موائد التوافقات المؤقتة والتحالفات الانتخابية كالتحالف الديمقراطى الذى كان يجمع منذ سنة المختلفين اليوم، لكن الحياة الحزبية المصرية ورثت عن نظام الاستبداد، انفرادها بالرأى وإنكار الآخر، وإقصاءه والإيمان المطلق بمقولاتها باعتبارها حقا خالصا، والكفر التام باجتهادات الآخرين باعتبارها خطأ صريحا.
وقد نشأت التأسيسية بين هذه التناقضات، فبدأت بتوافق واسع خلال النصف الأول من شهر يونيو 2012، ومع تقلبات السياسة المصرية بحل مجلس الشعب وصدور الإعلان الدستورى المكمل من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ثم صدور قرارات الرئيس مرسى المفاجئة التى نقلت السلطة بشكل تام لأول رئيس منتخب، عادت التأسيسية لتصبح مجالا للصراع بين القوى السياسية المتنافسة.
وحاولت التأسيسية أن تنأى بنفسها عن تلك الخلافات والصراعات، فابتكرت آليات للتواصل بالشعب مباشرة بعيدا عن الأحزاب، وبنت جسورا للتفاهم بين ممثلى تلك القوى داخل التأسيسية، فكانت تعمل على عدة مستويات: أولها فنى داخل لجانها النوعية، والثانى شعبى من خلال لجنة الحوار المجتمعى، والثالث توافقى من خلال لجنة القوى السياسية المؤثرة.
وأشهد أن تلك الطريقة للعمل، التى شرفت بالعمل مع الجميع فى كل مستوياتها، حققت انجازات غير متوقعة، فيما لو قارنا بينها والحصاد الهزيل الذى حققته القوى السياسية فى محاولة توافقها المزعوم، فمقابل أن تلك القوى السياسية لا يُذكر لها إنجاز على مستوى التوافق سوى عمل التحالف الانتخابى الذى كان يجمع بين فرقاء اليوم، فإن التأسيسية بآلياتها الثلاث، أنجزت لأول مرة فى التاريخ المصرى الحديث توافقا موضوعيا وأساسا معقولا للتفاهم والتواصل الفكرى والاجتماعى والسياسى:
فعلى مستوى العلاقة بين الدين والدولة، انتقلت الجمعية التأسيسية بكل من كان عضوا فيها، بغض النظر عن انسحاب بعضهم لاحقا، من توجيه الاتهامات إلى فهم الآخر، فتمكن السلفيون والليبراليون والإخوان والوسطيون من الوصول لصياغة واضحة لعلاقة الدولة بالدين، والتى لا تسمح بتسلط مؤسسة دينية على النظام السياسى، أو النسق القانونى المصرى، وبما يحقق مفهوما سياسيا واضحا لمعنى المواطنة، ولمعنى العلاقة بين الدين وعملية صناعة القانون، فأصبح المشرع المصرى، لأول مرة هو المهيمن المطلق على عملية التشريع، وأصبحت المؤسسات الدينية على إطلاقها جهة رأى واستشارة.
وفى هذا الإطار رأيت بعنى، كيف أن الليبراليين سعوا لتطمين الإسلاميين، كما سعى الإسلاميون لتطمين الليبراليين، فكان إقرارا، ولأول مرة بمفهوم «الطمأنة» كأساس للتوافق الوطنى، بديلا عن مفهوم الإنكار وفرض الرؤى.
وعلى مستوى بناء منظومة الحقوق والحريات، فإن الفضل يعود للجميع: إسلاميين وليبراليين، ومسيحيين ومسلمين، فى إنجاز أول وثيقة مصرية للحقوق والحريات مكونة من ثلاثة أقسام: الحقوق الشخصية، والحقوق المعنوية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ثم ضمانات حماية تلك الحقوق، والإنجاز لم يقف عند إتمام هذه الوثيقة، وإنما انتقل إلى إظهار ألوان الطيف السياسى والاجتماعى والروافد الفكرية الثلاثة للدولة المصرية فى صورة مشرفة.
وعلى مستوى النظام السياسى، فإن الدستور انتقل من مرحلة تركيز السلطة إلى مرحلة توزيعها بين رئيس الوزراء ورئيس الدولة، ومجلس النواب ومجلس الشورى، والمركز والمجالس المحلية التنفيذية، وحافظ على توازن دقيق بين السلطات بما لا يسمح بتغول أى منها على الآخر.
ربما إن خلافات السياسة خارج الجمعية وصل لهيبها إلى بعض الأعضاء داخلها، حتى إننى أعلم أن بعض الانسحابات استدعت بكاء المنسحب، أو عودته للتأسيسية بعد انسحابه، لكن الأهم هو أن الروح التى تواصل بها أعضاء الجمعية مع بعضهم أصبحت أمانة بين أيدى كل من كان عضوا فى الجمعية، وساهم فى إنجاز عملها، وعليه أن يفرضها على الطيف السياسى الذى ينتمى إليه، لا أن يسمح بأن تتآكل تجربته أمام زحف طبول الحرب الحزبية.
فأنا على يقين أن السلفى اكتشف أن الليبرالى لم يكن عدوا للشريعة، كما اكتشف الليبرالى أن السلفى ليس إنسان الكهف القادم من زمن آخر، ليفرض رؤى عتيقة على المجتمع، وأن هؤلاء وأولئك اكتشفوا أنه يمكن التعايش وتداول السلطة دون مساس حقيقى بمنظومة القيم المصرية ولا بوسطيتها ولا بتسامحها ؛ وأنه لا أحد يسعى لتغيير طريق حياة المصريين سوى للأفضل.
أخيرا أنهت التأسيسية عملها، والذى انتقل من يديها إلى أيدى الشعب، وستصبح مواد الدستور غدا هى مادة التنافس السياسى بعد أن كانت التأسيسية هى بؤرة ذلك الخلاف، وما أرجوه هو أن تتعامل القوى السياسية مع مشروع الدستور كتعامل ممثليها داخل التأسيسية، سواء من بقى منهم للنهاية، أو من انسحب منهم قبل المراجعة النهائية للدستور تحت ضغط السياسة.
وتحياتى وتقديرى لكل من شارك فى هذا العمل بفكره أو بقلمه أو بجهده أو بدعمه أو بصبره أو بتسامحه.
د. محمد محسوب يكتب: الدستور بين يدى الشعب.. والسياسة بين يدى الأحزاب
الأحد، 02 ديسمبر 2012 12:13 م