لم يكن من الشائع وقتها أن تستوقفك عيون اختبأت خلف لوح زجاجى تراقب الشارع الكبير فى صمت، تراصت بجوار بعضها البعض فى لوحات متفاوتة الأحجام بعضها يبتسم فى وجه المارة، والبعض الأخر اكتفى بإلقاء نظرات صامتة لكل من استوقفه الكشك الزجاجى الصغير الذى اكتظت جدرانه بالصور المرسومة بعناية، بينما انزوى هو فى إحدى أركانه منفصلاً عن المارة الذين وقفوا واحداً تلو الآخر لإلقاء نظرة فاحصة على هذا المكان، منشغلاً بالوجوه التى عاش معها، استمر فى جلسته أمام المكتب الصغير ممسكاً بريشة الفحم الأسود التى رسم بها كل وجه قابله طوال ستة وعشرين عاماً هى عمر كشك "رسام العباسية" الذى استقر تحت كوبرى العباسية منذ عام 1086 ممتلئاً بوجوه رموز زمن الفن الجميل.
عاماً بعد عام ظل الفنان "نهار مطر" أو "رسام العباسية" كما اشتهر وسط أهالى المنطقة، جالساً أمام الورقة البيضاء التى يحولها فى أقل من ساعة إلى إحدى الوجوه الناطقة التى يحتفظ بها فى معرضه الزجاجى الصغير الذى اشتهر فى منطقة العباسية بصور أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وسعاد حسنى ونجاة الصغيرة وغيرها من الوجوه الشهيرة التى استقرت على جدران "كشك رسام العباسية" طوال سنوات، لم يترك فيها "رسام العباسية" مكانه المميز الذى اختاره فور تخرجه من كلية الفنون الجميلة التى نقلها بريشته إلى عالم خاص عاش به مع وجوه رسمها على الورق وحفرها فى ذاكرته عاماً بعد عام.
البساطة وروح الدعابة الواضحة هى ما يميز "رسام العباسية"، عندما يبدأ حديثه تشعر بالكثير من الثقافة داخل عقله الممتلئ بذكريات المنطقة الشعبية التى اختلط "بأهلها وناسها" كما اختار أن يصف مكانه المميز الذى عاش به سنوات يراقب تغيره عاماً بعد آخر "الفنان يجب أن يختلط بالحارة الشعبية يراقب الوجوه من حوله ويتعمق فيها" هذا هو رأيه ببساطة عن الكشك الذى يجلس فيه يومياً منذ تخرجه.
بخبرته فى تفاصيل الوجوه المصرية يحكى "رسام العباسية" لـ"اليوم السابع" كيف تغيرت من حوله الحارة الشعبية قائلاً: الملامح المصرية واحدة لم تختلف كثيراً منذ أن بدأت فى رسمها للمرة الأولى، ولكن الهموم الواضحة هى ما اكتسبته على مر أعوام طويلة عشت فيها أتقن فن رسم البورتريهات حتى أصبحت جزء من حياتى، أصبحت أتقن فن الفراسة ومعرفة الشخصية من خلال الملامح التى أحاول طباعتها على الورق الأبيض بالفحم، أحاول تخليصها من بعض همومها على الورق".
أما عن أحداث الثورة التى عايشها لحظة بلحظة من داخل كشكه الزجاجى يقول "مطر": جلست هنا لمراقبة انطلاق المسيرات من أمام مسجد النور إلى ميدان التحرير، ولم أغير مكانى أثناء أحداث العباسية التى تقطعت فيها معظم صور هذا المكان الذى أعدت بناءه من جديد بعد الثورة، وأعدت إحياء الوجوه التى تعرضت "للضرب" أثناء الاشتباكات" يبتسم وهو يتذكر ما قيل عن لوحاته بعد أحداث العباسية التى لم تترك كشكه الصغير على حاله.
يتوقف عن الكلام لحظة ليجيب إحدى الزوار عن سعر لوحة نجاة ويكمل حديثه قائلاً: هذا المكان لا يقتصر بالنسبة لى على محل لكسب الرزق، فهو معرض دائم يتعايش مع الشارع المصرى، ولم أحلم بتغييره بالرغم من مرور السنوات، فالفنان يجب أن يحتك بالشارع، وهو ما تعودت عليه من استطلاع المارة للوجوه الذى لم يتوقف منذ أن بدأ عمر "كشك العباسية".
مبتعداً بذكرياته قليلاً يحكى عن مواقف لم ينساها مع وجوه غريبة ظل محتفظاً بها" أول لوحة رسمتها كانت "بجنيه"، والغريب أن صاحبها "إدانى الجنيه ومجاش تانى، ولحد دلوقتى محتفظ باللوحة ونفسى أشوفه" مبتسماً يحكى رسام العباسية حكاية كل لوحة فى معرضه المفتوح، بعضها من لم يعد أصحابها لاستلامها، والبعض الآخر من انفصل عن شريكة حياته التى شاركته الصورة قبل أن يسدد ثمنها فبقيت معلقة على جدران متحفه الصغير، لم يتخلَ يوماً عن أى وجه عاش بداخله أثناء رسمه على الورق، أحياناً ما يعاود رسم الوجه أكثر من مرة حينما يشعر بالتحدى فى ملامحه، فالفن بالنسبة له "مزاج" لم ينقطع عنه يوماً، يحلم بالوجوه طوال يومه، يحاول إخراجها على الورق، ثم يبحث لها عن مكان على حائطه الملون الذى لم يتوقف عن العرض المستمر طوال حياته.
"رسام العباسية" حكاية وجوه مصرية عاماً بعد عام بريشة فحم تحت كوبرى العباسية
الأربعاء، 03 أكتوبر 2012 04:04 م
جانب من الإبداعات
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
عادل راضى
انت حقا فنان مبدع
عدد الردود 0
بواسطة:
د نور كلية الفنون
نعم تهار مطر افضل رسام بورترية بالفحم الان فى مصر والمنطقة العربية
عدد الردود 0
بواسطة:
hesham sharara
نهار مطر فنااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااان