حينما قامت ثورة 25 يناير، كان أحد أهم أهدافها هو استقلال القضاء، وعدم تدخل أى سلطة فى شئونه، وأعتقد أن الرئيس الدكتور محمد مرسى أكد على مبدأ استقلال القضاء فى العديد من خطاباته كان آخرها خطابه عقب صلاة الجمعة الماضى، ولكن للأسف الشديد ما قيل من كلمات رنانة فى خطاب السيد الرئيس عن استقلال القضاء لا يجد له تطبيقاً فى الواقع العملى.
فحينما تولى الدكتور محمد مرسى رئاسة البلاد بدأ الاصطدام بالسلطة القضائية، بأن رفض حلف اليمين أمام المحكمة الدستورية وفقا لما نص عليه الإعلان الدستورى المكمل، ثم تراجع والتزم بما ورد فى الإعلان الدستورى.
وبعد فترة وجيزة أصدر قرارًا بعودة مجلس الشعب للانعقاد متعدياً بذلك على حكم المحكمة الدستورية الصادر باعتبار مجلس الشعب باطلا منذ تاريخ انتخابه، فأصدرت المحكمة الدستورية حكماً آخر بوقف تنفيذ القرار الصادر من رئيس الجمهورية بدعوة مجلس الشعب للانعقاد، فما كان من سيادة الرئيس إلا التراجع والانصياع لحكم القضاء.
والآن أصدر قراراً بتعيين النائب العام سفيرا لمصر فى دولة الفاتيكان، وذلك عقب أحكام البراءة الصادرة فى القضية المسماة إعلاميا بموقعة الجمل، وهذا يشكل قمة العدوان على السلطة القضائية، الذى لا أظن أنه حدث من قبل فى تاريخ مصر، والغريب أنه إذا كان الهدف من هذا القرار إرضاء أهلية المجنى عليهم فى موقعة الجمل باعتبار قيام النائب العام بالتحقيق فى هذه القضية، فهذا الأمر مغلوط، حيث إن النائب العام لم يحقق أصلا فى هذه القضية، بل كان يحقق فيها قضاة تحقيق منتدبون من قبل وزير العدل الأسبق، المستشار محمد عبد العزيز الجندى، والغريب أيضًا أن تسأل النيابة العامة عن حكم صدر ضد مصلحة المدعين، فهذا أمر غير قانونى أو منطقى؛ لأن صلة النيابة العامة بأى دعوى تنقطع عند إحالة القضية إلى المحكمة، وتصبح المحكمة التى ستصدر الحكم هى الوحيدة المعنية بها.
ثم تراجع السيد الرئيس عن هذا القرار بعد إعلان سيادة النائب العام رفضه للمنصب المعين عليه، ويتراجع الرئيس للمرة الثالثة انصياعًا لحكم الدستور والقانون، باعتبار أن القضاه مستقلون ولا يمكن عزلهم.
والغريب أن البعض يذكر حججا واهية لتبرير هذا القرار بأن الرئيس لم يعزل النائب العام بل كرمه بتعيينه سفيرًا، وأنه لم يخالف القانون، حيث فعل ذلك من قبل مع المستشار هشام جنينة بتعيينه رئيساً للجهاز المركزى للمحاسبات، وهذه كلمات حق يراد بها باطل، فما فعله الرئيس مع النائب العام هو إقالة مستترة أو مقنعة، ويترتب عليها أمور خطيرة، فلو أن أى قاض فى مصر أصدر حكما لم يرض سيادة الرئيس عليه أن يتوقع تعيينه فى أى منصب غير قضائى تكريمًا له، وبالنسبة لتعيين السيد المستشار هشام جنينة رئيسا للجهاز المركزى للمحاسبات، فالأمر هنا مختلف لأنه المستشار هشام وافق على هذا التعيين، ومن ثم فلا غضاضة فى ذلك، ولكن فى الحالة المعروضة الخاصة بالنائب العام لم يتحقق ذات الأمر، حيث أعلن سيادته رفضه رفضاً قطعياً ترك منصب النائب العام مهما كان السبب إعلاءً لشأن استقلال السلطة القضائية، وأنا فى هذا المقام أحيى النائب العام على هذا التصرف الذى كنا ننتظره منه كقاض جليل يعى جيدا معنى استقلال السلطة القضائية.
وحرى بالذكر أن دفاع جموع القضاة عن النائب العام ليس لشخص النائب فيوجد عدد من القضاة مختلفين معه فى بعض الأمور، وإنما الدفاع هنا عن منصب النائب العام، وعن استقلال القضاء ومنع السلطة التنفيذية من التدخل فى شئون السلطة القضائية.
سيادة الرئيس إن استقلال القضاة وعدم قابليتهم للعزل ضمانة أساسية لأداء القاضى لرسالته السامية فى إقامة العدل، وقد حرصت كافة الدساتير المصرية المتعاقبة، وكذا الإعلان الدستورى الحالى على النص عليها وكفالتها، لذا يجب على سيادتك أن تكون الراعى الرئيس لاستقلال القضاء، خاصة أن سيادتك الآن تملك كافة السلطات التأسيسية والتنفيذية والتشريعية.
نأتى لنقطة أخيرة وهى قيام البعض وللأسف فى الوقت الحالى بالتشكيك فى القضاء المصرى وأنه ضد الثورة وذلك نظرًا لأن المحاكمات الجنائية، التى تمت لعدد من رموز النظام السابق صدرت الأحكام فى أغلبيتها بالبراءة، وهنا أود أن أوضح بعض الأمور لمن يتحدثون بمثل هذا الكلام غير الصحيح تمامًا:
أولاً: القضاء المصرى قضاء نزيه، والقضاة المصريون هم من ترتكز عليهم العديد من الدول العربية للنهوض بقضائها.
ثانياً: لا يجوز لقاضٍ أن يحكم بعلمه أو بما يراه أو يقرؤه أو يسمعه أو بما هو مستقر فى يقين الرأى العام، بل لا يحكم إلا إذا توافر لديه الدليل القوى على المتهم، والنيابة العامة أو قضاة التحقيق لا يُسألون عن الأدلة؛ لأنها من اختصاص البحث الجنائى والشرطة فقط، وبالتالى فما يحدث الآن هو تحميل القضاء أكثر من طاقته وفوق استطاعته.
ثالثاً: القضاء المصرى ظلم ظلماً بيناً فى القضايا التى عرضت عليه سواء قضية الرئيس السابق وأعوانه أو قضية موقعة الجمل أو قضايا الضباط المتهمين بقتل المتظاهرين حيث كان الكثيرون يتوقعون ما سوف تسفر عنه سير هذه المحاكمات وفقا لقانونى العقوبات والإجراءات الجنائية المصريين من براءة المتورطين فى هذه القضايا أو على أقصى التقديرات بالحكم عليهم فى جرائم قتل خطأ، نظرا لوجود فراغ تشريعى، حيث إن المشرع المصرى تعرض بالتنظيم للجرائم التى يقترفها آحاد الناس فى مواجهة بعضهم البعض، والجرائم التى يرتكبها المواطنون فى مواجهة الدولة، والجرائم التى يرتكبها آحاد الموظفين العموميين فى مواجهة آحاد الناس، والجرائم التى يرتكبها آحاد الموظفين فى مواجهة الدولة.
وحين تناول هذه الجرائم من حيث مرتكب الجريمة لم يتطرق للجرائم التى يرتكبها النظام أو الحكومة فى مواجهة المواطنين، كما أن النيابة العامة المصرية والقضاء ملتزمان بأوامر الإحالة والتكييف للجرائم وفق قانونى العقوبات والإجراءات الجنائية المصريين، وهو ما ترتب عدم تناسب الأحكام الصادرة عن القضاء نتيجة الالتزام بالتشريعات الوطنية مع طبيعة الجرم المرتكب وخطورته.
وبذلك يكون السبب الرئيسى وراء ما يعترى هذه المحاكمات، وما أسفرت عنه من إفلات الجناة من العقاب يرجع إلى وجود فراغ تشريعى واضح، يتمثل فى خلو التشريعات المصرية من وصف صحيح ودقيق للجريمة المرتكبة بحق الشهداء والضحايا من المتظاهرين.
لذا أرى أن هذه المحاكمات تمثل ضغطا شديدا على القضاء المصرى، الملتزم بتطبيق أصول وقواعد قانونى العقوبات والإجراءات المصرى، وتمثل من جانب آخر تهديدًا للثقة العامة فى هذا القضاء، حيث يصدر القضاء المصرى الأحكام والقرارات وفقا للقانونين المشار إليهما.. مما يرتب ردود فعل عكسية من جانب المواطنين الذين يعترضون على هذه القرارات والأحكام، كما تتسبب هذه القرارات والأحكام بزيادة حالة الاحتقان والتوتر لدى أسر الضحايا والشهداء.
والسؤال الذى أطرحه على من يقولون بهذا الكلام: هناك مبدأ من مبادئ العدالة الانتقالية ينص على أن تطبيق القانون الاستثنائى فى الأوقات الطبيعية ظلم، وتطبيق القانون الطبيعى فى الأوقات الاستثنائية ظلم، فلماذا لم تقوموا وقت حدوث الثورة وإسقاط النظام بمحاكمات ثورية استثنائية بعيدًا عن النيابة العامة والمحاكم القائمة للقضاء على رموز النظام السابق؟ بدلا من إلقاء اللوم على القضاء، الذى يلتزم بصحيح حكم القانون.
*الخبير فى مجال القانون الجنائى الدولى
د. محمد صلاح أبو رجب
سيادة الرئيس.. استقلال القضاء أهم أهداف الثورة
الثلاثاء، 16 أكتوبر 2012 12:09 ص
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة