بالرغم من أن ثورة يناير كانت ثورة سلمية رفضت استخدام العنف ولاقت إشادة كبيرة على مستوى العالم لذلك حتى سُميت ب"الثورة البيضاء"، إلا أننا منذ سقوط مبارك وحتى الآن نعيش حالة من الاضطراب الأمنى وانتشار ثقافة العنف وأن الأقوى هو من يسيطر، فهل تكون الفتونة هى المسيطرة الآن على المجتمع المصرى ويرجع عصر الحرافيش فى رواية نجيب محفوظ، التى يرى بعض المثقفون أنها أبلغ صورة عن الوضع الحالى.
يقول الناقد الدكتور حسام عقل الأستاذ بكلية تربية عين شمس، أنه مع غياب مؤسسات الدولة التنفيذية والأمنية يصبح الطابع العشائرى والقبلى هو المسيطر، ويعود كل فرد إلى انتمائته القبلى ليحتمى به، وأبلغ صورة عن الوضع الحالى هو جسده نجيب محفوظ فى رائعته "الحرافيش" من انتشار الفتونة وثقافة السيطرة للأقوى.
بينما يؤكد عقل على أن الثورات الكبرى على مر التاريخ دائما ما كان يعقبها موجات من العنف، فهى معادلة تاريخية لا تتغير، فالثورة الفرنسية أعقبها بحار من الدماء امتدت لسنوات، كذلك الثورة الإيرانية شهدت ما يقرب من 60 ألف نفس تم إزهاقها فى أعقاب الثورة، لذا فهى سمة الثورات الكبرى، إلا أن الثورة المصرية بذلك تكون الأقل عنفا فى تاريخ الثورات.
ولكن كل ذلك لا يعنى أن نسكت على هذه الظاهرة، وإنما علاجها يكون بعودة أجهزة الدولة من جديد والقضاء على الخلافات الفكرية، وإيجاد نقاط مشتركة بين التيارات المختلفة، ويجب أن تشيع ثقافة القانون والاحتكام الى السلطات وإدانة ما يسميه البعض "عدالة الشارع" التى هى نذير بفناء المجتمعات البشرية.
يقول الدكتور عبد الله شلبى أستاذ الاجتماع، أن هذا العنف ليس وليد يوم وليلة، وإنما هو نتاج للعديد من التراكمات من عنف وقهر وظلم ولّد لدى الكثير نوع من الكبت على مدار سنوات عديدة، ولكن هذا الكبت تحول إلى انفجار بعض الثورة بعد سقوط النظام، وأنتج ما يسمى ب"عنف المقهور"، فكثير من الناس حتى الآن تشعر أنها كانت تعيش فى كهف شديد الظلمة وخرجت فجأة الى النور ولا تعرف الطريق.
ويرى شلبى، أن هذا العنف هو نوع من العنف الهيكلى المرتبط بالنظام الاجتماعى والاقتصادى، كما هو نتاج لفكر دينى متشدد يتبنى ثقافة القوة واستخدام العنف فى التعامل مع من يخالفه الرأى ولا يتبع أفكاره.
وحتى نتمكن من مواجهة ثقافة العنف لابد من إقامة دولة قوية تستعيد هيبة الدولة، دولة قانون تمارس دورها بشكل فعال وقوى ويشاركها الشعب فى أداء هذه المهمة، ويعينها عليها.
ويضيف شلبى، أن تغيير ثقافة شعب ليس بالأمر الهين، وإنما تحتاج لوقت طويل وصبر، فنحتاج لتنشئة جيل جديد يتمكن من بناء دولة قائمة على ثقافة الاعنف والتسامح وتقبل الرأى الآخر والتنوع، وهى مسؤلية كل مؤسسات التنشئة الاجتماعية فى تربية الجماهير وإعادة تثقيف الناس.
ويشير شلبى، إلى أن ثقافة الديمقراطية هى البُعد الغائب فى عملية التحول الديمقراطى، فلا يمكننا أن نطبق الديمقراطية، ونحن نفتقد لهذه الثقافة فى حياتنا العادية فى المدارس والجامعات والمنزل حتى فى داخل منابر السياسة من أحزاب ومؤسسات لا تطبق الديمقراطية داخلها.
بينما تقول إيمان شريف أستاذ علم النفس بالمركز القومى للبحوث، إن البلطجة هى ظاهرة لدينا منذ زمن، إلا أنها لم تكن بهذه الحدة والانتشار، فكانت مسيسة وموظفة عند الحاجة إليها، وترعى الدولة بعض أنواع البلطجة فى عدة مواقف مثل الانتخابات والسجون، إلا أنه بعض سقوط النظام، بدأ أعداد كبير من البلطجية يعملون لحسابهم الخاص بدون خوف خاصة بعد اختفاء الأمن وشعورهم بعدم وجود قوى يخشونها.
كما أن هناك الكثير ممن كانوا يشعرون بالقهر والكبت الذى ولّد لديهم إحساس بالخوف، انقلب بعد الثورة إلى الرغبة فى الشعور بالقوى، ولكن كان صورة عنف وكسر للقواعد والقوانين العامة وتبنى ثقافة أن الأقوى هو من يسيطر.
وتقول شريف، إن هذه الثقافة يتم مواجهتها من عدة جوانب، اجتماعية متمثلة فى دور مؤسسات التنشئة الاجتماعية التى تعمل على تربية الأجيال القادمة على ثقافة التسامح ونبذ العنف، كما يكون من خلال جوانب أمنية بعودة الشرطة فى صورة جديدة تعمل على حفظ الأمن العام مع ضرورة احترام حقوق المواطنين، وهناك جانب نفسى إلا أنه يحتاج لوقت طويل لأنه قائم على دراسات تتبعية وأبحاث.
وتؤكد شريف على أن هذه مجرد مرحلة انتقالية ستنتهى بمجرد بناء الدولة الجديدة بمؤسساتها، فالشعب المصرى بطبيعته ينبذ العنف وقادر على مواجهته، والدليل على ذلك اللجان الشعبية التى كانت موجودة أثناء الثورة التى تعاونت مع الجيش فى مواجهة البلطجية والحرامية.