فى اللحظة التى شرعت فيها بالكتابة اجتاحتنى أصوات كادت تدك جدران الشقة، رغم أنى أسكن فى الدور الثانى عشر، خرجت إلى الشرفة لأستطلع الأمر، فوجدت كل أفراد الأسرة قد سبقونى إلى هناك، كانت الأصوات تسد الآذان بامتداد المربع السكنى، فماذا حدث فجأة؟ اكتشفنا أن الموضوع غاية فى البساطة، فالشارع الذى لا يزيد طوله عن مائتى متر كان يشهد احتفالين بافتتاح مشروعين عظيمين.. الأول كوافير سيدات والثانى جزارة، وكلاهما يتنافس فى رفع أصوات «الدى جى» ليكون له الكلمة العليا فى اختراق كل الحواس فى المنطقة، وبالصدفة البحتة كان الجيران فى العمارة المقابلة يحتفلون بعيد ميلاد أحدهم، ففتحوا كل النوافذ، وانطلقت السماعات الداخلية المصحوبة بغناء جماعى «لايف» لتنافس «الديجيهات» الأرضية، فى تلك الليلة البائسة اختلطت أصوات سعد وعبدالباسط حمودة وجورج وسوف ونانسى بأصوات الشيخ الحذيفى ودعاء جبريل مع أسماء الله الحسنى بصوت هشام عباس... استعدت فى لحظة الكتابة هذا المشهد الصاخب، فوجدته - ودون تعسف - يمثل المعادل الموضوعى لحالة الحراك السياسى فى مصر الآن، فإذا كان التعدد قيمة ديمقراطية، ففى الصخب إقصاء للآخر، وإذا كان التنوع هو القانون الطبيعى الذى ينسجم مع الفطرة الإنسانية، ففى التنافر نفى لأى انسجام، وإذا كان مفهوم الجبهة أو الائتلاف قائما على سبيكة المشتركات، فإن الحالة المصرية الآن تفتش عن الخلاف لتبرزه، فيصبح المؤتلفون - فى الشكل - مختلفين فى المضمون، اختلاف الأبيض والأسود.. وأى رصد لدوائر الحكم فى هذه المرحلة الانتقالية التى نحياها يكتشف أن السلطة المؤقتة الآن حمالة أوجه، يعتقد كل طرف فى المعادلة قربه منها، وما عليه سوى أن يرفع صوت «الدى جى» إلى أقصى درجة ليبدو الأكثر حظا فى سباق عملية الإحلال والإبدال بعد انتهاء النظام القديم، وإذا تابعنا ما يصدر من تصريحات وما ينشر من أخبار وما تبثه الفضائيات فسوف يرى البعض أن الإسلاميين قادمون، ومن حق البعض الآخر أن يجزم بقدوم التيار الليبرالى المدنى المطعم باليساريين، وربما رأى محللون أن المؤسسة العسكرية سوف تأتى فى ثوب مدنى كتأمين لمرحلة انتقال طويل.. فطالما تحول «الدى جى» إلى فلسفة سياسية فلا أمل فى الوصول إلى صيغة وسطى بين فرقاء «الثورة»، خاصة بعد أن سعت معظم الفصائل لتغييب أصحاب الثورة الحقيقيين، وصار «التحرير» عند الكثيرين مشتوما مكروها بعد أن كان قبلة للجميع، ففى الأيام الأولى للثورة حتى حدث التنحى أو الخلع لم يرتفع صوت فوق صوت الجماهير المليونية، التحم المسلم والمسيحى، تآخى السلفى والشيوعى، تكاتف الإخوانى والناصرى، فنانون ونجوم كرة، ألتراس الأهلى والزمالك، تقاسم الجميع علب الكشرى والفول والتمر والمياه المعدنية، وتلاصق أحرار التحرير نوما على أرصفة التغيير.. وبرغم العزف المنفرد فإن السيمفونية الجماعية صنعت لحنا ثوريا من إنتاج الضمير المشترك.. ذهب الشعب البطل و«القائد» إلى حال سبيله بعد أن أنجز أشرف وأنبل ثورة فى التاريخ، وفجأة تواطأ المتحدثون باسم الثورة على كذبة كبرى اسمها «الثورة بلا قائد»، فقرر الفرقاء أن يعتبروا أنفسهم القادة الطبيعيين لهذه الملحمة الكبرى، واختلط التراب بالدقيق، وتنافرت «الديجيهات»، فبالله كيف يمكن أن نفهم أو نستوعب تيارا سياسيا ينشئ عشرين ائتلافا فى يوم واحد، ليتسنى لأكبر عدد من ممثليهم دخول حلبة الحوار مع المجلس العسكرى؟ حتى الأحزاب الليبرالية تعرضت للانشقاق قبل التأسيس فى سابقة لا تحدث فى أى عملية سياسية فى التاريخ، لأن مجرد التواجد أصبح هدفا وغاية. وقانون الكثرة العددية والصوت العالى هو القانون السائد، فهل يمكن أن نطلب من كل المخلصين فى فصائل العمل الوطنى شيئا بسيطا: «ياريت توطى الدى جى شوية».