عرفت من شاويش سجن ملحق مزرعة طرة، أننى مطلوب غدا صباحا للعرض على الطبيب فى المكتب التابع للطب الشرعى بميدان رمسيس، وحينما دفعنى أمين الشرطة من باب سيارة الترحيلات فى التاسعة صباحا، وجدتنى مع ثلاثة من معتقلى الجماعة الإسلامية، أحدهم تظهر علامات التعذيب على وجهه ويديه وحول عينيه، والثانى كشف لى عن فتحة فى بطنه، تظهر جزءا من أحشائه، إثر ضرب مباشر (بسونكى) البندقية، ولم يثبت الطب الشرعى شيئا عن حالتيهما، حتى فى المرة التى صاحبتهما فيها، لأنهما لم يدخلا من الأصل إلى غرفة الطبيب الشرعى بحسب أوامر أمن الدولة، أما الثالث والذى أعنيه بهذا المقال، فهو محمد الأسوانى المعتقل المعروف بعملية الهروب الكبير مع زميله عصام القمرى، وهو أقدم معتقل سياسى بعد الإفراج عن المغربى، ومن قبل عبود وطارق الزمر، وناجح إبراهيم، وكرم زهدى، رأيته جالسا فى صندوق عربة الترحيلات، حاولت أتعرف عليه قائلا: أنا فلان المقبوض عليه بتهمة اقتحام الجناح الإسرائيلى فى المعرض الصناعى (1995)، فأكد لى أنه يعرفنى ويعرف أقرانى من الفصيل السياسى الذى أنتمى له، وأذهلتنى ذاكرته ومعلوماته الغزيرة عن القوى السياسية، وهياكلها التنظيمية، فسألته بانبهار : أنت من؟ فضحك وهو لا يكاد يتحرك: أنا محمد الأسوانى، فقلت: صاحب عملية الهروب الكبير؟ فرد بالإيجاب وكان طبيعيا أن أسأله عن كيفية نجاح هذه العملية رغم الحراسات المشددة، فابتسم الرجل برقة وثقة : يا أخى لا يوجد فى هذا النظام من يمكن أن يضحى بنفسه من أجل هؤلاء الحكام.. فطالبته بالمزيد من التفاصيل فقام بسرد الحكاية المدهشة والتى تفوق أفلام الأكشن: قمنا بتهريب (أجنة وشاكوش) وكنا نقوم كل يوم فى توقيت تغيير الحراسات بحفر السقف لدقائق معدودة، وبعد عدة أيام كانت القطعة المحفورة على وشك أن ندفعها باليد لتكون فتحة ملائمة للهروب، وهذا ما حدث تماما، وبعدها فوجئنا بأن كل أفراد الحراسة يرمون أسلحتهم ويفرون من أمامنا خوفا من وجود آخرين معنا، وحينما وصلنا باب السجن كان قد تجمع فى أيدينا عشرات الأسلحة، ثم استكمل الأسوانى الذى كان يعانى شللا نصفيا- باقى الحكاية من الهرب حتى القبض عليه مرة أخرى.
لكننا حينما وصلنا مكتب الطب الشرعى، حدثت مفاجأه باكية لدرجة الضحك أو ضاحكة لحد البكاء، فقد طلب الأسوانى من فرد الحراسة المقيد معه فى الحديد، أن يفك عنه القيد ليذهب إلى الحمام، وفجأه دخل الضابط المرافق لنا فوجد الجندى وحده دون الأسوانى، فأصابه الفزع وانطلق يضرب الجندى بضراوة حتى كاد أن يفتك به، واقتحم دورة المياه مختطفا الأسوانى ثم وضعه فى القيد مع الجندى، وحينما اقتربت من الأسوانى سمعته يقول لفرد الأمن المسكين: الضابط له الحق فيما فعله معك، لأننى لو كنت بنصف صحة لهربت فعلا، كان الأسوانى يتحدث باطمئنان وهدوء، وحينما عدنا فى العربة نفسها، رويت له ماذا حدث لى مع الطبيب الشرعى، الذى استمع لأقوالى وكشف عن آثار التعذيب فى جسدى استجابة لقرار النيابة، فوجئت بالأسوانى يؤكد لى أنه لم يدخل للطبيب أصلا رغم عشرات البلاغات التى قدمها للنيابة عن تعذيبه، لأن الأمن لم يسمح له بذلك. المهم أننى تعرفت عن قرب على إنسان - تختلف معه كثيرا - لكن لابد أن تشهد له بالإخلاص لفكرته وتفانيه فى سبيل تجسيدها فى الواقع، وأشهد أنه صاحب خلق وصاحب وعى عميق، وقدرة كبيرة على التحليل وقراءة المشهد السياسى، لقد قضى الأسوانى أكثر من ثلث قرن فى السجن، واستكمل مدة حبسه، لكنه لم يحصل على الإفراج بعد، ويشرفنى أن أكون ضمن المطالبين بالإفراج عنه والتحقيق فى قضايا التعذيب التى تعرض لها هو وزملاؤه من سائر المعتقلين.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
مصرية
قمع امن الدولة
عدد الردود 0
بواسطة:
طارق غطاس
أمن الدولة