هذه حكاية تذكرتها وأنا أشاهد فيلم «الفاجومى» الذى يستند إلى مذكرات الشاعر «أحمد فؤاد نجم»، وافتقدتها فى المذكرات وفى الفيلم، مع أنها حكاية فاجومية، بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى.
وأصل الحكاية يعود إلى يناير 1975، عندما خرج بعض عمال منطقة حلوان الصناعية، فى مظاهرات عارمة، احتجاجاً على إجراءات تمس مصالحهم، أعلنتها حكومة «د. عبدالعزيز حجازى»، ووصلوا إلى وسط العاصمة فحطموا الواجهات الزجاجية لعدد من المحلات التجارية، وهم يهتفون «حكم النازى ولا حكم حجازى»، وفى المساء شنت مباحث أمن الدولة حملة واسعة النطاق شملت أعداداً كبيرة من اليساريين، الذين نشطوا خلال الأعوام السابقة لمعارضة سياسات الرئيس السادات، وقدمتهم إلى نيابة أمن الدولة بمذكرة تحريات كان شائعاً آنذاك أن تبدأ بالإشارة إلى أن فلول مراكز القوى ولابسى قميص عبدالناصر من عناصر الثورة المضادة، التى تسعى لتشويه إنجازات ثورة التصحيح المجيدة التى قادها الرئيس المؤمن «محمد أنور السادات»، قد بدأوا يتحركون فى أوساط الطلبة والعمال والفئات الشعبية، وأن المعلومات المتوفرة تكشف عن أن الذين تزعموا هذا النشاط هم الأسماء الواردة فى الكشوف المرفقة.
وكان اسمى مدونا فى أحد هذه الكشوف ضمن قائمة تضم عدداً من الشعراء والأدباء والصحفيين والمثقفين، اتهمتهم مباحث أمن الدولة بأنهم كانوا يترددون على الجامعات ويحرضون طلابها على التظاهر بإلقاء أشعار مناهضة والاشتراك فى ندوات مناهضة، وينشرون قصصاً ومقالات مناهضة، وأنهم يشكلون جمعية ثقافية لمناهضة وزير الثقافة آنذاك «يوسف السباعى».
وهكذا اقتادونا إلى سجن «ليمان طرة»، وأغلقوا علينا أبواب الزنازين بشكل دائم، باستثناء ثلاث مرات نخرج فيها إلى دورات المياه.. وبدأنا بالتفاوض خلسة من أجل القيام بعمل احتجاجى ضد إدارة السجن لأن أسلوب معاملتها لنا، يعتبر - بالمصطلحات الليمانية - تخزين، وهو أمر محرم بلائحة السجون، لأنه يحرم السجين من حقه فى الحركة والتريض والتعرض لضوء الشمس، وطالب بعضنا بالتريث حتى تصلنا معلومات عن أبعاد الحملة ضد اليسار وطبيعتها، واستطاع آخرون أن يتوصلوا إلى معلومات بأن إدارة السجن بريئة من أسلوب معاملتنا، وأن هناك ضابطا بمباحث أمن الدولة منتدبا لهذا الغرض، وهو الذى يحدد طريقة المعاملة.. ويشرف عليها.
وفى الليلة التى وصلت فيها هذه المعلومات، فوجئت بأحمد فؤاد نجم الذى كان محبوساً فى الزنزانة المقابلة لزنزانتى، يصيح بأعلى صوته: مساء الخير يا صلاح عيسى يا مباحث يا ابن الـ«....» يا «....»... ومع أننى كنت معتاداً على سيل الشتائم الفاجومية البذيئة، إلاّ أننى لم أفهم سببها إلا عندما كررها «نجم» - وخلفة كورس من سكان زنزانته والزنازين التى فى صفه - ضاغطا على كلمة «مباحث».. ففهمت الفولة، ورددت عليه التحية بأجمل منها قائلاً: مساء النور يا «نجم» يامباحث.. يا ابن «....» يا «......».. وأمضينا يومين بليلتين ندحرج الكلمات صفا فى مواجهة صف على طريقة إياك أعنى والشتائم لك يا مباحث أمن الدولة!
وردت المباحث بمزيد من سوء المعاملة، وأضفنا إلى تحيتنا قراراً برفض وجبات الطعام، فى رسالة تهديد بأننا سنضرب عن الطعام، وقال لنا شاويش العنبر ذات صباح إن الباشا المدير والباشا مأمور السجن وسعادة الباشا ضابط مباحث أمن الدولة سيزورون العنبر لكى يستمعوا إلى مطالبنا بتحسين المعاملة، وفى الموعد المحدد فتحت لنا الزنازين، ووقفنا فى صفين متقابلين، وما كاد باب العنبر يفتح، وتهل طلعة الباشوات، حتى فوجئنا بأحمد فؤاد نجم يغادر مكانه، وفى قفزة واحدة كان يحتضن الباشا الوحيد بينهم الذى يرتدى زياً مدنياً، وهو يقول له: إزيك يا أبوحنفى.. إزيك يا حبيبى.
وكانت المفاوضات لا تزال تدور، حين تحلق بعضنا حول نجم يسألونه عن هذا الأبوحنفى.. فقال ببساطة: ده محمود التلتى ضابط مباحث أمن الدولة.. كان بيلعب معانا كورة قبل ما يدخل كلية الشرطة.. وعندما رأى الذهول فى أعيننا أضاف: هو صحيح مباحث.. مباحث.. إنما جدع جدا...!
واندفعنا نضحك.
عدد الردود 0
بواسطة:
سلوي
هكذا يكون الفارس النبيل يا استاذ صلاح
عدد الردود 0
بواسطة:
ali
راحت بغير رجعه