أعجبت نظرية "أنصاف الرجال"، التى أطلقها شبل أسد سوريا على حكام العرب خلال معركة غزة عام 2006، الكثير منا، فأصبح له عليها شعبية لا بأس بها بين صفوف المحبطين فى الأرض والناقمين على نظمهم، ولا شك أنه كان يقصد بها، وهذا ما خمناه وقتها، كل الحكام العرب من ملوك وسلاطين ورؤساء، من حسنى مبارك وزين العابدين بن على ومعمر القذافى وعلى عبد الله صالح إلى الملك عبد الله.
وكانت نتيجتها وقتها أن تدهورت العلاقات العربية العربية حتى وصلت إلى أدنى مستوى وصلت إليه منذ أن تأسست جامعة الدول العربية التعيسة والمتعوسة منذ نشأتها بعد الحرب العالمية الثانية بشهور قليلة، لتصل تلك العلاقات إلى درجة تحاشى اللقاءات مع شبل الأسد، ليس فقط فى كافة العواصم العربية، بل حتى تحاشى لقائه فى المحافل الدولية بإعطاء الملوك والرؤساء الملوك المذكورين ظهورهم له فيها، عدا على عبد الله صالح، ليبدو شبل الأسد وقتها وحتى وقت قريب جدًا معزولاً عربيًا وبالقصد، مما حدا بالبعض منا إلى التشبث به يائسًا والتمسك به رمزًا لمقاومةٍ غير موجودة أصلاً، علاوة على اعتباره – ظلمًا - رمزًا لعصرٍ تقدمى تحنُّ إليه الأفئدة يأسًا مما هو موجود واقعًا وعل الساحة.
إلى أن جاءت لحظة الحقيقة، حين وضع شبل الأسد موضع الاختبار، وكان الأول له ولعهده الذى طال ليصل إلى فترة ماثلت مدة حكم الرئيس السادات لمصرنا العربية (11 سنة كاملة) ليرسب الشبل فيه عن جدارة، برغم محاولاته المستميتة لاستجداء عطف المختبرين له من أهالى سورية الحبيبة وشعبها البطل، علاوة أيضًا على عطف المحبطين إياهم، والذين كانت قد حانت لهم الفرصة ليخطفوا حريتهم من فم أنصاف الرجال أو فى طريقهم إليها بعد بذل النفس والنفيس فى سبيل ذلك، ليبقى الأسد وحيدًا فى عرينه يفكر فى كيفية الخروج من مأزقه، مأزق الدم – دم الشعب - الذى لطخ به نفسه وذات نظامه، ليصبح هذا الدم هو العقبة التى ما بعدها عقبة، أصبح عليها نداء الشعب بإسقاط النظام لا إصلاحه هو قول الساعة.. نعم، قول الساعة!
الشعب فى سوريا صبر أكثر من شعوب المنطقة جمعاء على مطلب الحرية بعد أن هدد مرة وندد مرات وصبر وصابر طويلاً مع التمسك بمقولات الصبر المعهود كمفتاح لكل فرج الذى لم يأت ولن يأتى بمشيئة فوقية تمثلت فى حاكم حتى ولو كان أسدًا أو شبلاً لأسد مثل بشار.. قيل لشعب سوريا فى البداية وحتى تمر الخيبة عليهم وبإرادتهم أيضًا، إن هذا الرجل هو رجل الإصلاح، فغيروا له القوانيين والدساتير ليرث أباه فى نظام يفترض فيه أن يكون جمهوريا برلمانيا علمانيا تقدميا اشتراكيا مفروضا فيه أن يوفر الخبز لأهله جميعًا، فلم يحدث منه، ليباع الخبز فى السوق السوداء على طريق أوتوستراد المزة من أطفال فى عمر الزهور كانت القلوب تدمى لرؤيتهم، وهم واقفون وما زالوا فى كل وقت وتحت كل الظروف الجوية يضعون الخبز فى أكياس بلاستيكية على الرصيف فى انتظار إشارة من قادة السيارات لا عابرى الطريق مشيًا كالمفلسين، فى بلد صدَّر القمح متفاخرًا وهاداه أحيانًا أكثر تفاخرًا بينما الجموع التعيسة الفقيرة تكد عليه ولا تجده.
حدث هذا من نظام كان يفترض فيه - لما يحويه من عنوانين ثورية كثيرة براقة - ألا يفرق فى فرص الجموع الكادحة تفريقًا، كما حدث منه، ومفروض منه أن يفرض العدالة الاجتماعية فرضًا، كما لم يحدث منه، فقام النظام الشبل بعد وراثة أبيه بتطبيق النموذج الصينى بفتح باب الاقتصاد وبطريقة مخجلة وقفل السياسة بطريقة اعتبرت أكثر إحكامًا عما كانت عليه فى عهد الأب، لتصير المهزلة مهزلتين، ففتح الاقتصاد بهذه الطريقة أنعش طبقة رأيناها فى بلد مثل كوبا حين جفت كل مواردها من منح إلى قطاعات منتجة كانت تعتمد على دول صديقة فلم يتبق لها غير قطاع أوجده لها الأوربيون، وهو السياحة، ليتم بها إفساد كل ما حققه النظام الكوبى من منجزات فى قطاعات التعليم والصحة والرياضة ولتتحول كوبا الثائرة إلى ماخور والشعب إلى شحاذ رسمى يلهث وراء العملة الصعبة فى جيوب السياح لتستمر المأساة إلى مؤتمر الحزب الشيوعى السادس بفتح الاقتصاد رسميًا وعلنيًا وعلى المنوال الصينى إياه، عل ذلك يرأب الصدع الذى حدث فى المجتمع ويعجل كحقيقة بنهاية النظام بأسره.
أما فى سوريا فكان النموذج الصينى المتمثل فى مواربة باب الاقتصاد، خاصة قطاعات التجارة والسياحة - لا فتحه بالكامل - يصب فى صالح طبقة رسمية مفترض فيها ولها أولاً وأخيرًا الولاء للنظام والطاعة لولى الأمر، صاحب النعم، ولا يفترض فيها ولا بها تلك الكفاءة المتوفرة فى الطبقات الكادحة لا الانتهازية المعهودة، لتقف قريبًا جدًا من النظام، مثلما عرفنا ذلك فى مثلها فى مصرنا وعائلتها الأولى السابقة وفى تونس بن على والعائلة الأولى السابقة أيضًا، فالتوكيلات الأجنبية فى سوريا من قطاع الاتصالات الرائج وقطاع استيراد السيارات والأدوات الترفيهية الخائبة، كانت توزع بالطبع على الأحباب من رواد فرح البعث وكل بعث، ضاربين بالفكرة النموذجية للقومية العربية عرض الحائط، ليقوم الباطل على باطل بمهزلة مكملة هى إحكام قفل السياسة فحتى زحزحة المادة الثامنة من الدستور التى تنص على أن "حزب البعث العربى الاشتراكى هو الحزب القائد فى المجتمع والدولة"، أى ليس فقط فى الدولة بل المجتمع بأسره، ليصبح عليها ما كان مسموحًا به فى عهد مباركنا من "اشتم ولا تطالب"، ترفًا ما بعده ترف فى ظل بوقى النظام من "تشرين" و"الثورة"، تمامًا كما جعل رئيس مجلس إدارة الأهرام إياه من مؤسسته الأهرام فيما يخص عدم المساس بمبارك وأولاده، لتصبح فى سوريا نقدة واحدة تقابل بعقوبة الخطف من البيوتات أو ترميل العامة والخاصة فى سجون تعتبر مقارنتها بجوانتنامو نكتة سخيفة، عدا عن السحل المعهود والمنظم حتى لا يترهل النظام ولا يفقد حيويته التعذيبية كأداة تخويف لكل الشعب، ومن هنا كان الخروج الشعبى عن الطاعة، طاعة النظام، التى لم تفلح فى تكبيل الشعب بقضية تؤمن بها كل الشعوب العربية والصديقة أيضًا، وهى قضية فلسطين، التى نجح "الحزب القائد الوحيد والملهم الأوحد للدولة والمجتمع" فى استخدامها لعقود طويلة كغطاء ثقيل حامٍ له لا خوفًا على القضية بل على باطل ولتقييد الشعب على أن لا يتنفس أو أن يطالب بقضايا أخرى حياتية ويومية ضرورية وملحة يفترض لها أن تجاب منذ سطوا على السلطة ليصبحوا مزمنيين لنا وعلينا مع الاحتفاظ بالغطاء من تلك القضية البائسة بهم إلى قضايا حماس وحزب الله وإيران، والتى سماها النظام "قضايا الكرامة"، بينما الشعب يجوع بشدة ويعطش بكرامة ويثور بالدم أخيرًا من أجل لقمة خبز وحرية وعدالة اجتماعية.
هذا لن تفيده ترقيعات النظام ولا تبديلات الأشخاص، فاقضية أصبحت قضية دم بين نظام وشعب لا يتفقان ولا يتماثلان ولا يتوافقان.. إنه وقت سقوط النظام، لا الشعب!
* محاضر بجامعة ونسبروك بالنمسا