أتذكر الآن "نصرى هرمينا".. أتذكر سنواتى الأولى فى الصعيد.. أتذكر "نصرى"، الذى كان يأتى إلى الحقل ويلقى علينا السلام، وينزل من فوق حماره "المطيع"، بدون مقدمات ولا دعوة مباشرة، يجلس على "الطعام".. والطعام ليس مغرياً نهائياً.. "جبنة قديمة".. وتضع بين قوسين كلمة "مش".. وبصل.. ولو ربنا يومها "رايد" بـ"لقمة حلوة" تجد "بيض مسلوق" يجاور سابقه.. المياه يومها كانت من النيل مباشرة.. "حقلنا" كان ولا يزال على بعد 150 متراً من مجرى النهر.. وتتجه إليه بـ"إناء" وتعود بـ"مياه نقية".. ولا أعرف ما شأنها الآن.. فأتحدث عن 25 سنة مضت.. وبعدها يأتى كوب الشاى المصنوع على الفحم أو على بقايا زراعة محاصيل مثل السمسم أو الذرة أو "جريدة النخيل".. يأتى الشاى ليعيد رأسك إلى طبيعتها الأولى التى تحولها حرارة الشمس إلى "ملعب كرة قدم به عبث".
"نصرى" لم يكن وحده هو الذى يهبط ويشاركنا "الجبنة والمش والبيض والبصل ومياه النيل وكوب الشاى".. كان شقيقه أو توأمه "لمعى".. كنا نشاهدهم من على بعد مسافات طويلة.. كان النظر قوياً وكانت المنطقة أيامها خالية من المبانى.. وهما فردان من عائلة واحدة تعيش فى قريتنا.. وقريتنا تحتضن قرابة 90 ألف نسمة الآن.. فى شمال محافظة سوهاج واسمها "شطورة" ولا تسألنى عن الاسم.. وربما أخذنا كثيراً من الاسم.. فنسبة التعليم بها تتجاوز 95% من سكانها الذى أصبح التعليم هو هدفهم الأول والأخير.. ويفتخرون به وسط قرى الصعيد وتأتى القرية فى المرتبة الثانية بعد قرية بنى عدى فى أسيوط من حيث عدد أساتذة الجامعات.
أتذكر الآن أنه عندما كان يظهر "نصرى" نجد أبى _ رحمه الله_ يقول لنا: "خده جنبك.. خده جنبك" وقبل أن يهبط الرجل من فوق دابته تجد اليمين: "والله يا نصرى لتنزل".. وربما لا ينتظر نصرى هذا القسم وينزل.. سنوات طويلة على هذا الحال.. هذا نصرى هرمينا.. وهذا قريبه وزميلى سامى وليم ميخائيل الذى كان يجوارنى مقعد واحد فى الإعدادية وصار الآن طبيباً معروفاً فى القاهرة.. وهذا رشدى هرمينا.. وهذه صيدلية الدكتور فوزى هرمينا.. وهذا "حليم".. وكان لحليم قصة أخرى.. فكان "تاجراً متجولاً" لـ"الملابس".. وكان جاوز الـ75 عاماً.. ويتحدث بهدوء وبطء.. ونشترى منه بضاعتنا ويشترى منه المئات.. ويدفع البعض الآن أو بعد شهور "حسب التساهيل".. ونظراً لـ"الالتصاق" الشديد بين حليم وبين جار وقريب لنا.. كنا وإحنا عيال.. نقول لـ"جارنا" يا حسين حليم".. وكان حسين يكبرنا بسنوات ويضحك ويهرول خلفنا ونقول له: "يا عم أنت بتصدق.. دا الراجل مش قادر يكح وخلصان".. ونضحك ويضحك.. ونبكى جميعاً عندما نعلم بعد سنوات أن "حليم" مات.. ويظهر ابنه فى "الكادر"، ونقول: "ابن عم حليم" جه يلم فلوس أبوه.
أتذكر الآن "عبد الله".. شاب كان يرتدى جلباباً أبيض وبنطالاً ويطلق لحيته.. ونسأل من عبد الله.. ويأتى الرد.. ده واحد كان مسيحى وأسلم.. وعايش فى البلد فى منزل بسيط.. وهو من قرية قريبة من بلدتنا.. ولم يسأله أحد: "من أنت ولماذا جئت.. ولم تفاجئنا عائلته ببلاغ أو وقفة احتجاجية، أو هجوم على القرية".
أتذكر الآن أهلنا فى "الجنوب".. أتذكر "أيامنا الحلوة" هناك.. لم ولن أنسى زميليى التوأم "صفوت وكمال فرهود" وهما فى قرية مجاورة لنا "عرب بخواج" وغالبيتها مسيحيون.. لم يحدث بين قريتينا مشاجرة أو "وصلة سب".. أو هجوم ولا هجوم معاكس.. نستقبلهم حين ينزلون سوق قريتنا يوم السبت ويغادرون فى هدوء.
أتذكر الآن عن الدكتور على الخطيب وهو يحكى لنا عن "ميخائيل" الذى كان يأتى إلى المسجد وقت صلاة المغرب.. "لا ليصلى" ولكن ليدخل حمام المسجد.. يقضى حاجته، ويقول لهم: السلام عليكم، ويردون عليه: وعليكم السلام يا ميخائيل.. أتذكر الآن وأبكى على "الأيام الحلوة".. وأبكى ويبكى قلبى عندما أمر من عند مبنى اتحاد الإذاعة والتليفزيون وأجد اعتصاماً مفتوحاً للأقباط.. أبكى عندما أتابع وقفة أو تجمهراً عند كنيسة العذراء فى عين شمس.. أو انتقل إلى إمبابة لأتابع "حرب أهلية" بين مسلمين ومسيحيين بسبب "لا مؤاخذة عبير".. التى أسلمت وقالت بـ"عضمة لسانها" فى برنامج "بلدنا بالمصرى" لـ"ريم ماجد": "قالوا لى عايزة تخلصى من جوزك لازم تسلمى وأنا قلت أسلم".. قالتها بـ"لهجتها الصعيدية" القريبة من لهجتنا.. وضحكت.. ضحكت ضحكاً كالبكاء.. وأنا أقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله".. الله ربى.. ورب نصرى.. نصرى هرمينا.