ظلها وارف.. فارش.. ممتد.. جذورها ضاربة فى الأرض تحسبها أنها تمتد إلى آخر العالم.. نجلس على أفرعها الممتدة المليئة بحبات التوت.. نتحدث.. نضحك.. نغنى.. نتشاجر ونتصالح.. نأكل ونملأ جيوبنا الصغيرة لحد الامتلاء.. أما أوراقها الخضراء الزاهية العريضة فهى طعام لدودة القز.. كل يوم على هذا النحو من أيام الصيف الذى لا نشعر بحرارته عندها أبدا..
ويوما ذهبنا وقبل أن نصل منعنا رجل ملامحه بها قسوة.. نظراته نارية يحدق فينا فتحرقنا.. وبصوته الفظ الجهورى يقول لنا: إياك أشوف واحد منكم هنا تانى الأرض بقت ملكنا بالشجرة.. ارتعبنا.. أصابنا الخوف فجرينا.. سألت أبى فأجابنى بصوت حزين: دول عصابة وحطوا أيديهم على كل حاجة ماتروحوش هناك عشان هايضربوكم.. أحسست بالحزن من كلمات أبى الذى كنت أظنه قويا وسيأخذنى من يدى وينادى أصحابى ويذهب بنا إلى الشجرة غير مكترث بالحارس غير ملتفت للعصابة.. لكن عندما رأيت حديثه به هذا الاستسلام أدركت أنهم أقوى من أبى فصمت ولم أعد اسأله ثانية.. حاولنا أن ننشغل بلعب الكرة فبدأنا فى تنظيم الدورات.. والتسابق فى الهوايات.. والجلوس ساعة المغارب.. ولكننا كنا فى غالب الأحيان لا نتكلم إلا عن شجرة التوت.. أوحشتنا.. تسللنا يوما إلى هناك كى نراها من بعيد.. بعيدا عن أعين الحارس اللعين فوجدنا ابن صاحب العصابة هو وأصدقاؤه يأكلون التوت ويقذفون بعضهم البعض فيتساقط على الأرض طازجا جميلا فكنا نتماسك حتى لا نسرع لنلتقطه مخافة الحارس.. ومرت سنوات ومازالت شجره التوت هى حلمنا لم ننساها ولم نقدر فبدأنا فى الترتيب لمغافلة الحارس وإن حدثت مواجهة فلن نتركه سنلقى عليه بالحجارة.. وعزمنا على ذلك وسرنا ونحن نشد أزر بعض.. كان الحارس أمام الشجرة بالضبط فى ظلها الذى حرمنا منه.. فجأة قال صاحبى: أنا عايز أبطحه تعالوا نرميه بالطوب.. وفعلنا.. ففزع الرجل واختبأ فى جزع الشجرة لكننا بدأنا فى اصطياده من كل الجهات فصرخ وهو يسرع فى الجرى مبتعدًا وتسلقنا الشجرة بخفة.. كنا نقبلها ككائن يشعر ويحس ويشتاق.. أكلنا بنهم.. وجمعنا منه إلى أن امتلأت جيوبنا.. وفجأة ونحن فى الأعلى وجدنا الحارس ومعه بضعة رجال رأونا ونحن على هذا الحال صيدا سهلا فأمطرونا بالحجارة فنزلنا سريعا لنركض إلا أن أيديهم كانت تصفعنا وأرجلهم تركلنا إلى أن تناثر التوت من جيوبنا وابتعدنا بعد أن تقطعت أنفاسنا من الجرى.. جلسنا نلعق جراحنا وقهرنا وقله حيلتنا إلى أن مر علينا رجل مهيب كنا نسمع عنه الكثير الطيب لكننا لم نره أبدا.. سألنا: مين اللى عمل فيكم كده؟ فحكينا الحكاية.. وصف لنا ملامحهم وأسلوبهم سائلا: صح؟.. قلنا له بالضبط تمام.. فقال لا تخافوا هذه الأرض بالشجرة ليست ملك أحد أنا معاكم.. اندهشنا غير مصدقين.. ولأنه ذكى فقد قرأ وجوهنا بسهولة أنا معاكم بس مسافر النهارده وراجع تانى عايزكم كل يوم تروحوا هناك وتعملوا اللى أنتو عملتوه ده لغاية ما أرجع.. وفعلنا.. كل يوم نمطرهم بالحجارة.. كل يوم نزداد عددا.. ورجع الرجل المهيب وأخبرناه بما فعلنا.. تحرك الرجل جديا وتكلم مع كبار البلد عن الأرض المنهوبة بالشجرة.. كثيرين لم يهتموا.. والبعض تخوف من أذى العصابة.. إلى أن الرجل كان عازما على الفعل بهم أو بدونهم معتمدا علينا وسط دهشة الكبار.. وفى يوم تجمعنا.. كان عددنا أكبر بالطبع لكن لم يكن على النحو المرجو لكن صممنا وذهبنا ففوجئ الحارس ونادى الحراس بسرعة وكانت معركة حامية والعجيب أننا جعلناهم يهرولون مذعورين وزعيمهم معهم ونحن فى إثرهم نضربهم حتى أدميناهم فوقعوا فريسة سهلة بين أيدينا.. فى الأيام التالية حدث شىء عجيب حضر من كان يرفض ما نفعله وأمرونا بالنزول من على شجرة التوت لأنها ملكهم بالأرض!
صورة أرشيفية
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة