ذات مساء أمسكت بخواطرى.. أتصفح مسوداتى.. أسرح معها، أغمض عينى فتأخذنى الذكريات.. أسبح فى نهرها وأرتع فى بستانها فأتحسس"هفهفة" نسيم الحرية على وجهى، وتلفحنى رياح التغيير.. تجتاحتنى لحظات فرح الثورة نورها قبل نارها فيهفنى الشوق، وتهل علىّ نفحات التحرير.
حينما كنا ندلف لميدان التحرير كنا نرى "يوتوبيا"، متحركة ونابضة بالحياة على الأرض، ترى المدينة الفاضلة بكل معانيها أمامك.. خلية نحل تعمل بكد لا تكل ولا تمل نظام ورقى.. تحضر وتمدن.. فقط رغبة عارمة فى الإصلاح والتغيير.
ينقسم الشباب إلى مجموعات.. مجموعة للتفتيش تقابلك بوجة بشوش وابتسامة صادقة مرحبة قائلة اتفضلوا نورتونا.. شرفتوا الثورة.. وما أن تكمل المسير حتى تستقبلك مجموعة أخرى"زى الورد" هاتفة "أهلا أهلا بالأحرار اللى انضموا للثوار".. مجموعة أخرى للحراسة، وأخرى طبية للإسعاف.
مجموعة تحمل لافتات تمتلئ بخفة الدم المصرية الأصيلة من أول "ارحل عايز أحلق" مرورا بـ " ارحل قبل ما مراتى تولد الواد مش عايز يشوفك"، وانتهاء بـ اثنان يلعبان دور شطرنج، وبجوارهما لافتة مكتوب عليها "أهو عقبال ما تمشى".. فالمصرى، والمصرى فقط ابن نكتة خفيف الدم والظل من يومه.. عنده قدرة على مواجهة الآلم بالأمل والحزن بالابتسامة، والضحك على ذاته فى كل المواقف.. بما فيها حتى حتى الضحك على خيبته !
وهى قدرة لن تجدها إلا عند المصريين، فهم قادرون على صنع "الشربات من الفسيخ"، فى عز عز الأزمة بيضحكوا.. وفى عز عز الشدة يبتسموا ويسخروا من واقعهم المؤلم ، الأليم بالضحك والنكات، وهذا ما جعل الثوار فى عز الأزمة و المعاناة فى منتهى القوة، ومنحتهم قوة التحمل للنهاية، وهى ما جعلتهم يصمدون ثمانية عشر يوما كاملة فى العراء.
نرى مجموعة أخرى تعلق لافتات وأخرى تكتبها ومجموعات ترسم على الأرض أو على لوحات، ومجموعات تنحت أو تلون.. وأخرى تنظم الصفوف والمسيرات، ومجموعات تهتف.. وآخرين يحملون علما كبيرا يسيرون به فى مسيرة سلمية، ومسيرات أخرى للاحتفال بعيد ميلاد أو خطوبة و أخرى للزواج.. لا تتعجب إنه ميدان التحرير المصرى.
كنا نرى مجموعة أخرى تنظف وتجمع القمامة.. وهناك من يوزعون البلح والبسكويت والأطعمة.. ومن يجمع الأخبار، وأوراق الجرائد ومن يقوم بعمل نصب تذكارى وشاهد رمزى للشهداء، وهناك حفلات سمر، وهذا يغنى وأخر يخطب، و هذا يقرض الشعر.
التحام فى تآلف غير طبيعى وإخاء رائع لا يفرق بين عمر أو دين أو نوع أو اتجاة فكرى أو أيديولوجى.. من الآخر كده، كما قال الكتاب "لا تمييز"، "لا تحرش"،"لا سرقة".. مش بأقولكم يوتوبيا، جعلت من "الشعب يريد أخلاق الميدان" شعارا شهيرا بعد ذلك.
وحتى بعد أن انفض الجمع مع التنحى، وسط احتفالات صاخبة، و تكبيرات و غناء و تنطيط والعاب نارية حتى الصباح، الذى ما أوشك أنه أتى حتى بدأت خلية نحل شعبية أخرى فى العمل من جديد.. فهذه عربات المخلفات تجمع القمامة وأخرى لنقل الأمتعة، والبطاطين وحل الخيام، وأخرى تنزل حمولة أدوات النظافة والمنظفات، ليبدأ مهرجان التنظيف العظيم.
هو مهرجان الحرية والنصر"مهرجان نظافة الثورة"، فبالفعل هى ثورة نظيفة قلبا وقالبا.. نظيفة فى كل شىء، بدأت سلمية وخرجت سلمية، لم تلوث يداها قط. وحتى حينما خرجت نظفت، ورائها ولم تترك ورقة على الأرض، فى مشهد حضارى أذهل العالم أجمع ورفع أرصدة الثورة إلى الضعفين .
مشهد مهيب إنه ثورة الملايين، ومشهدا منيرا وهو تنظيف الملايين للميدان، ومشهدا مهينا وهو سرقة الملايين، و مشهدا قذرا وهو تهريب الملايين، مشاهد عديدة هى التى تعاقبت أمام عينى فى سرعة متلاحقة.
شتان بين هذا وذاك.. فشباب الثورة ضربوا مثلا غاية فى النبل والتحضر، ارتقى بنا لنحلق عاليا فى سموات جديدة، لم نعهدها من قبل، فغطانا ضيائها وشملنا نورها، و سمى بنا هذا الشعور، فأشاع طاقة من نور شملت وعلت وجه الحرية.
الكل كان ممسكاً بمكنسته وجاروفه وكيسه، حتى الأطفال الصغار يمسكون بـ "مقشة" أكبر منهم مرتين.. فترى حينها أمامك الأمل مشرقا ومشعا، ترى أمامك مصر إللى جاية تبتسم لك.. مصر الجديدة التى نحلم بها وبأولادها.. ترى الغرس والنبتة التى لابد وأن نعهدها بالرعاية والعناية لتكبر وتصبح شجرة عملاقة، وارفة الظلال كثيقة الأوراق.. تظلل الأمل والولد والبلد.. شجرة نماء ورخاء، شجرة عز ومجد.
لقد ضرب المشهد للعالم كله درسا فى روعة الحرية، وتقرير المصير والالتزام وعلم، العالم أجمع درسا لن ينساه، أن من يقرر مصيره.. ينظف ضميره
وأن سيد قراره.. كفيل بمشواره، وأن من عرف وذاق الحرية.. لن يرضى بالذل بديلا.
فمن ذاق عرف، ومن عرف اغترف، ومن غرف غرق
وأن من يدعو لتطهير الفساد.. وتنظيف البلاد.. نظف البلاد والميدان معاً.. حتى نعتها الجميع وعُرفت بأنها الثورة" اللى نظفت وراها".
فمثلما تنظف شقتك وتملأها بالغبار، و" تكركب حولك"، لتحولها بعد هذا إلى أبهى صورة منمقة نظيفة، كان لابد من تنظيف البلاد، وما تبعه من شوية كركبة فى الشقة .
أقهقه، وأنا أتذكر شكاوى بعض من اتهموا الثورة بتعطيل أعمالهم.. وقف أشغالهم، وقطع عيشهم، وأنها السبب الرئيسى للكساد.
فأمامى سوق كبير ممتلئ بكافة السلع، والمنتجات حركة بيع وشراء لا تنقطع، رواج تجارى كاسح وازدهار لصناعات متناهية الصغر، أمامى "سوق الثورة" الكبير على مرمى البصر، بامتداد ميدان التحرير، ومخارجه ومداخله وكافة الطرق الجانبيه والفرعية المؤدية إليه.
فهولاء بائعو الشاى والقهوة والعصائر والمثلجات وعربات اللب والفيشار والحمص والترمس والسميط والفطائر (البوريك أبو جبنة وأبو عجوة)، والتسالى وعربات الأطعمة والوجبات الخفيفة كالمكرونة، وسندويتشات الكبدة، وعربات الفول والسجق وعربات المأكولات كالكشرى، الذى كان طعاما رئيسيا للثوار، بعد أن اتهمهم الجميع بأكل الكنتاكى، فأطلقوا عليه لقب "الكشرتاكى"، ناهيكم عن بائعى كروت شحن المحمول والأعلام والشارات والشعارات والأشرطة الملونة وراسمى الوجوة واللوحات واللوجوهات وجميعها تحمل اسم مصر وثورتها والشهداء.
لقد صار ميدان التحرير والتنزه به جائزة للمطيعين من الصغار، يصطحبهم آباؤهم لينطلق الصغار وهم يحملون أعلاما مختلفة المقاسات، مع اختلاف أحجامهم يلهون بها، ويمرحون وهم يرسمون علم مصر فوق جبينهم الندى الطاهر البرئ، ويخطون كلمات العشق فى حب مصر.. الكل يقوم بالتصوير وتسجيل التاريخ الذى يتشكل على رأى أوباما- يلتقطون الصور بجوار الدبابات، ومع الجنود والشلة.
ما أجملها أسواق الثورة ..
والآن وبعد الهدوء النسبى، راجت أكثر وتعددت منتجاتها أكثر وأكثر.. فتجد التيشرتات والقمصان والشيلان والكوفيات والقبعات والكاب والبرانيط والدبابيس والحلى مختلفة الأشكال والأحجام، كذلك اللوجوهات والبادجات والصور واللوحات كلها عليها رسومات و كتابات مختلفة.. اتحدت فيما بينها أنها تحمل شعار الثورة ورموزها، وصور شهدائها، وعلم مصر فى سوق الفخر المصرية.. فى معنى يجسد بالحرف الواحد الأسواق الحرة المصرية، ولكن هذه المرة ليست الشركة الشهيرة، وإنما السوق الحرة المصرية بمعناها الجديد الحر.
حتى الثقافة والكتب كان لها مكان، فتجد الكتب التى طبعت سريعا فى المطابع الصغيرة بها تدوينات أصحابها، ومعاصرتهم ومعايشتهم اليومية للثورة، والتى حرصت على اقتناء إحداها وقراءته.
لقد اقتطع الميدان وأحداثه وبائعيه ومرتاديه، الذين افترشوه ليلا فى عز الشتاء، من أجل الحرية والكرامة.. لهم فيه ذكريات، وأيام لا تنسى، أخذ من أعمارهم ومن عمر ذكرياتهم الكثير، اقتطع هو الآخر فصولا كثيرة من كتاب ذكرياتى الذى افترشه ليلا أنا الأخرى، أقلب فيه وأتصفحه مبتسمة، للذكريات الجميلة التى حفرت بداخلى طرقا و أنهارا، خصبة من الذكريات والإلهام .
فاطمة عبد الله تكتب: اشتقت لـ "كرنفال" التحرير
الثلاثاء، 12 أبريل 2011 09:20 م
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة