المتعمق فى التاريخ المصرى منذ بدايته مع إشراقه الفراعنة حتى عهد محمد على باشا، يجد أن هناك دستوراً وقانوناً عرفياً يحكم بها البلاد وأن الثورات عبر كل العصور والحروب كانت فقط ضد محاولات التدخل الأجنبى وهناك أيضا ثورات للشعب أتت بحكام أجانب حكموا البلاد كما حدث مع محمد على ومع التقدم الحضارى الذى صاحبه انجازات فى العصر الحديث بدأ التدخل الآجنبى يتعمق فى وجهة النظر البريطانية حتى أحدثته عام 1882 إثر هزيمة أحمد عرابى فى مواجهتهم ورغم ذلك فكان هناك مجلس نواب مختار من علية القوم لأول مره عام 1879 ومع هذه الإصلاحات قامت ثوره (19) بقيادة سعد باشا زغلول أخر زعماء مصر الذين قادوا الثورة ضد الملكية والحماية البريطانية حائزاً على كل المطالب التى لم تستطع الثورة العرابية أن تصل إليها وهى إقرار مجلس نيابى منتخب للبلاد وزيادة أفراد الجيش عن 18 ألف جندى وإقرار دستورى للبلاد بمواثيق محددة بدلا ًمن العرف السائد.
الذى يميل مع هوى الملك فى قصره ورؤية سفارة بريطانيا الحاكم الفعلى للبلاد؛ لقد نجحت ثورة 19 ضد الملكية الفاسدة فى حكم مصر والاحتلال البريطانى وتم إقرار أول دستور للبلاد عام 1923 من أقوى وأنجح دساتير مصر حتى الآن فيوجد فيه كل ما يريده الشعب من حكامه وجميع التعديلات التى طرأت عليه تحوم حول الحمى وتوشك أن تقع فيه ولكن _هيهات_فقد ضمن دستور عام (23) حرية تأسيس الأحزاب السياسية والأغلبية البرلمانية هى التى تشكل الحكومة ولا مانع من حكومة ائتلافية فى ظل وجود الملك وريث عرش البلاد ؛فقد أنجب هذا التزاوج ؛أحزابا قوية مثل الوفد والأحرار وغيرهما تناوبا تشكيل الحكومة عن طريق برلمان حر ونزيه يخلو من وصاية الباشاوية، وعاشت مصر ثلاثين عاماً فى حياة مزدهرة على كافة الأصعدة فكان الجنيه المصرى يوازى خمسة دولارات والاقتصاد قوى جداً وكنا نصدر القمح والقطن والبترول ولم تستطع أى دولة أن تجور علينا فخضنا حرب 1948 ضد تدفق اليهود لفلسطين وكانت حرباً رائعة سجل الجيش المصرى الذى زاد عن 18 ألف جندى وفق ثورة 19 أروع الملاحم القتالية وانتصر من جهته.
رغم وجود وصاية بريطانيا على هذا الشعب وفق معاهدة 1936 التى حاول النحاس إزالتها ولكنه لم ينجح وإن كان قد أحدث حراكاً حصدته ثورة يوليو بعد ذلك.
ورغم ولاء القصر الشديد لبريطانيا كانت أسرة محمد على حتى فاروق آخرهم موالين لمصر حتى تراك أن فاروق عندما أحس أن الشعب لم يعد فى حاجة إليه وأن الجيش ألغى وجوده غادر البلاد عبر يخت المحروسة إلى ايطاليا وكانت وصايته أن يدفن فقط فى مصر تزال أسرته يزورون مصر حتى اليوم وجاء نجله الأمير احمد الذى يعتبر أخر ملوك مصر فقد قبل والده فاروق التنازل عن عرش مصر له بوصاية الجيش المصرى وكفل ذلك اللواء محمد نجيب الذى اختلف مع قيادات الثورة بعد عامين من قيامها لنقض هذا العهد الذى أبرمه مع الملك فاروق فما كان من جمال عبد الناصر سوى عزله من الثورة وتحديد إقامته حتى لاقى ربه فى ثمانينات القرن الماضى فقيراً معدماً كما كان يعيش رغم حصوله على رتبه اللواء التى هى نادرة فى مثل هذا العهد داخل الجيش ؛ وما تزال أسرة محمد نجيب تتخبط فى مصر ولا تجد من يرعاها بعد مظله الاضطهاد التى شنها رجال الثورة ضده وأكملها السادات ولم يشأ النظام السابق أن يعدلها أو ينظر إليها سوى تدوين اسمه على محطة مترو بعابدين.
لقد قامت ثورة الجيش المصرى فى يوليو 1952 التى انقلبت على حكم الملك والوصاية البريطانية وألغت الأحزاب السياسية وأبرمت دستور 1954 بموجبه يتم حكم البلاد، وظهر الإتحاد الإشتراكى الذى حكم مصر منفرداً وكون حرسه نظاماً موازياً لرجال الثورة حتى أضحوا مثل الباشاوية فى عهد الملكية، وعندما زاد نفوذ هذا الحزب وشكل خطراً على حكم الرئيس السادات _ رحمه الله عليه _ أتى بأحمد بهاء الدين وأعلن قيام الأحزاب السياسية كما كان معمولاً به من قبل الثورة فرد عليه بهاء الدين إن دستور مصر 1971 لا توجد فيه شرعية للأحزاب فأنكر السادات عليه ذلك وعلل كلامه بأن الدستور صناعة بشرية ويمكن تعديله؛ وتطور الأمر فأقام السادات ثلاثة منابر حزبية أولهم اليمين برئاسة مصطفى كامل مراد واليسار برئاسة خالد محيى الدين والوسط برئاسته لكى تطمئن الناس وتشارك ؛ورفض السادات قيام حزب للإخوان المسلمين بعد أن حلت الجماعة على يد عبد الناصر عام 1954 إثر حادث المنشية ومحاولة قتله ،إنما أحيا السادات مبادئ هذه الجماعة لكى تحد من سيطرة الفكر الناصرى واليسارى والشيوعى الذى غزا مصر فى هذه الحقبة بدون اعتراف رسمى ولكن لم يسمح لهم بحزب وكذلك النظام السابق لم يمكنهم حتى من تأسيس حزب سياسيا.
وأتتنا ثورة الشباب فى الخامس والعشرين من يناير وتولى الجيش حكم البلاد فى ظل حكومة تسيير الأعمال وهى أول ثورة شعبية تنجح فى إزاحة النظام السابق عن حكم البلاد كلية، وانتظرنا أن نرى مكتسبات الثورة التى تجلت فى قانون الأحزاب الجديد إيذاناً بحياة سياسية فريدة من نوعها فى مصر رغم تغليظ الإجراءات إلا أن الشارع تقبل الأمر منتظراً ما هو آت..
فإلغاء لجنه شئون الأحزاب التى كان يستغلها الحزب الوطنى لصالح نظامه كانت أداة لعرقلة المسيرة رغم صدور عدة أحزاب على متنها أكثر من 15 حزباً إلا أن الشعب والسياسة غير راضيين عنها لأن المحكمة هى التى أصدرتهم بعد رفضها المتكرر والغير مبرر، وإلغاء الدعم السنوى لكل حزب من الدولة وهو 100 ألف جنيه وهو ما أزعج كل الأحزاب الورقية والكرتونية التى استعدت لإغلاق أبوابها أما تشديد وتغليظ الإجراءات فى اشتراط قيام الحزب أن يأتى وكيل المؤسسين بخمسة ألاف عضو مؤسس فهو شأن صعب جداً ومكلف فى نفس الوقت عن طريق الشهر العقارى الذى يصل إلى 80 ألف جنيه رسوماً فقط علاوة على المصروفات الأخرى والمصاحبة؛فعدد المحافظات التى فيها التشكيل لا تقل عن 10 محافظات بنسب معينة والنشر فى صحيفتين واسعتى الانتشار وهو ما يكلف المؤسسين ما لا يقل عن مليون جنيه لأن هذا العدد يوازى نشر خمس صفحات من الحجم الكبير إستاندر وسعر الصفحة الواحدة لن يقل عن 100 ألف جنيه فى أوسع الصحف انتشارا مثل المصرى اليوم أو الأهرام أو الأخبار.
البعض أشاروا إلى أن هذه شروط مفصلة على الإخوان المسلمين وأتباعهم من السلفيين والجماعة الإسلامية أو الأقباط ولا تتاح لفصيل معين فى المجتمع كالشباب الثائر والحركات التحررية المحدودة العدد والقدرة المالية ولكن القانون جرم أنشاء الأحزاب على أساس دينى وهى نقطة مطاطية يصعب تحديدها فخلو الأمر من ذلك هل يكون وفق البرنامج أم الصبغة للمؤسسين أم أى معيار أخر وهى نقطة ما تزال غامضة ولكن القانون فى مجمله لم يرتد للخلف ليقول كلمته فى الأحزاب التى تخطت العشرين حزباً ولا تواجد لها فى الشارع سوى أحزاب محدودة .
الكثير من الأحزاب كانت مهادنة مع السلطة ومع النظام السابق ولم نرى سوى نشوة لحزب الوفد على يد السيد البدوى وفى الماضى كان الأحرار الذى أنطفأ نجمه بوفاة مؤسسه وزعيمه مصطفى كامل مراد فى أغسطس 1998 وكذلك حزب العمل الذى تم تجميده من قبل النظام لخروجه عن الخط المرسوم له أما حزب اليسار أو التجمع الذى أسسه خالد محيى الدين ما زال له وجود فى الشارع ومقاعد فى البرلمان ورؤية واضحة للمستقبل وبرنامج منفرد.
وحزب مصر الفتاة الذى دفنته الحكومة الماضية لبزوغ نجم صحيفته عام 1990 وسيطرتها على سوق القراء متخطية حاجز ال100 ألف نسخة فتم إغلاقها ومصادرتها لإبعاد رئيس تحريرها عن الساحة وهو مصطفى بكرى الذى اعترض عليه النظام إثر تكليفه برئاسة وإصدار جريدة الأحرار يومياً فى أبريل 1994 ولكن رئيس الحزب قال قولته المشهورة: يأتى النظام ليجلس على مقعدى ويديرا الحزب بدلاً منى؛لقد ذبح النظام السابق سوق المعارضة فى مصر وفضحوا رموزه علانية إلى درجة التعرض للأخلاق؛.
والآن علينا أن نعى الدرس جيداً ونتفادى أخطاء الماضى ونرى عشرة أحزاب جديدة قوية وقادرة على تداول السلطة بعد أن نقر دستور جديداً بالشرعية البرلمانية التى تشكل الحكومة فهى كافية للحد التلقائى لسلطات رئيس الجمهورية ونبدأ عصراً جديداً فهل النظام البرلمانى أنجح من الرئاسي؟! سؤال يحتاج إلى صوت الشعب .. المناخ فى مصر مهيأ لبعث حياة حزبية جديدة وتقويم الحياة القديمة التى لم تعد مواكبة لروح العصر بعد أن تفاقمت المشكلات والانقلابات وكيلت الاتهامات علانية فالأجدر بنا أن نغلق الصفحة الماضية وتحل الأحزاب ويبدأ عهد جديد بنفس الشروط الموضوعة حالياً وإن كانت صعبة فى بعض موادها ولكن لو تمت بالإخطار فسوف تأتى ثمارها فى عهد جديد قادر على مواكبة العصر؛إن لكل زمن رجاله ونظامه وأساسياته وقواعده ودستوره حتى لا نجد رقعة فى الثوب ونبكى على اللبن المسكوب.
• نقيب المحامين ورئيس اتحاد المحامين العرب .
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة