تحدثنا كتب التاريخ، أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، اختار تمويل عدة صحف تصدر من العاصمة اللبنانية بيروت، للترويج للتيار العروبى الذى تبناه نظامه، ولتأييد مواقف مصر مما عاصرته المنطقة آنذاك من أزمات وصراعات. وسار خليفته أنور السادات على نفس الدرب باختلافات طفيفة، متمثلة فى احتواء ورعاية أقلام ثلة من الصحفيين العرب الذين جنوا فى المقابل الكثير من المنافع والفوائد المالية والاقتصادية، إلى أن وصلنا لعهد الرئيس السابق حسنى مبارك الذى اكتسب مهارة فى الاستفادة من خبرات ومهارات ما ورثه من كتاب عرب من سلفه قبل نجاحه فى استقطاب المزيد منهم.
بالتالى لم يكن مستغربا ولا مستهجنا حينئذ تسويق هذه الفئة من الكتاب لملف توريث حكم مصر لجمال مبارك عربياً، وقدموا عشرات الأسباب والمبررات الدالة على عدم وجود من يصلح لتلك المهمة سواه، نظراً لقربه من والده وعمله لسنوات لجواره، مما أكسبه خبرة ودراية بشئون الرئاسة وكواليسها، وأنه من الظلم حرمان جمال من حقه فى الترشح بالانتخابات الرئاسية لكونه ابن الرئيس، وأنه يستحق نيل فرصته بصفته مواطناً عادياً، ودبجت مقالات بهذا المعنى نشرت فى صحف لها اسمها ووزنها فى بلدان الخليج، وأخرى تصدر من لندن، فى الوقت الذى كان النظام السابق يحارب بلا هوادة أو رأفة شرفاء كتاب مصر الذين عارضوا التوريث.
ولن يجدى فى لحظتنا تلك معاتبة هؤلاء الكتاب الذين سخروا أقلامهم لقضية ظالمة تلوث حضارة وتاريخ مصر، ويكفيهم حسرتهم على انهيار مبارك ونظامه، وسقوطهم المهنى، وخسارتهم مصالحهم معه، وقربهم من دوائر صناع القرار المصرى الذى فتح لهم أبواب البيزنس وملحقاته، حيث أفادوا واستفادوا، وسنغفر لهم ما فعلوه، وعفا الله عما سلف. أما غير الجائز غفرانه فهو إصرار بعضهم على الوقوف حجر عثرة أمام محاسبة نظام مبارك على خطاياه وجرائمه بحق الشعب المصرى.
فقد أطل أحدهم عبر نافذته اليومية بصحيفة عربية ذائعة الصيت، مطالباً بعدم محاكمة مبارك، لأنه لا يتقبل مشاهدة رئيس مصر فى قفص الاتهام، إلا إذا كان ملاحقا بتهم الإبادة والقتل واغتيال معارضيه ومطاردتهم فى بلدان العالم. وأضاف أنه مريض تعدى الثمانين، وأنه أفضل لمصر دخول مبارك التاريخ متهماً لا مداناً أيضا.
انتهى كلام الكاتب العربى الشهير، وليسمح لى بسؤاله: "ماذا فعل مبارك بشعبه خلال الثلاثين عاما الماضية"؟ حولها بكل أسى إلى إقطاعية يتصرف فيها المقربون منه ومن نجله كيفما شاءوا، بينما جاع الملايين من المصريين ولم يجدوا قوت يومهم، وفتكت الأمراض بأجسادهم النحيلة، هل راعى مبارك وهو فى عزه ومجده وصحته هؤلاء المرضى البؤساء، بإقامة مستشفيات تليق بآدمية البشر، أم تركهم نهباً لسماسرة المستشفيات الخاصة، ألا يعتبر هذه جريمة تستوجب الحساب والمحاكمة؟. ولن أعيد وأفصل أمثلة كتبت آلاف المرات عن حال المصريين ومعيشتهم فى الأعوام الفائتة، وما عانوه من مشكلات ومعضلات تلزم محاكمة كل المتسببين فيها، وعلى رأسهم رئيس البلاد الذى لم يكن يدرى من أمور مواطنيه شيئاً.
بمقدورى تفهم صدمة أيتام مبارك فى الصحافة العربية لفقدهم مكاسبهم ومميزاتهم، لكن ما لا أقبل تفهمه تسويقهم إعفاء الرئيس السابق من المحاسبة لكبر سنه، وأنه أهين بما فيه الكافية، أن العدالة توجب محاكمة مبارك ومحاسبته، فى حال إدانته، حتى يكون عبرة لمن سيأتى بعده للقصر الرئاسى بأن مهمته الأولى والأخيرة ليس التمتع برفاهية السلطة، بل خدمة من أوصلوه لكرسى الرئاسة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة