منذ حقبة من الزمن قررت الانتقال من فصيلة "المتكلمة" إلى فصيلة "المتأملة"، هجرت مجتمع المدينة الصاخب الذى لا يمطر سوى كلاماً لا ينبت العشب فى الارض، قادنى التأمل فى البحث عن معانى الزهد والتجرد حتى من مصالحى الفكرية، وانحيازاتى الأيدلوجية، فوقفت كثيراً أمام حلقات الثورة الوطنية الديموقراطية المصرية (1805 وحتى 24 يناير 2011)، أى منذ تأسيس الدولة المصرية الحديثة وحتى الآن وكان التساؤل الدائم هو: لماذا لم تنجز أى ثورة مصرية مهامها كاملة؟
ثورة 1805 بقيادة عمر مكرم – رغم أنها ثورة مصرية خالصة – إلا أنها قدمت الحكم لحاكم أجنبى (محمد على باشا)، وإن كانت قد حررت أول إعلان دستورى مصرى، والرابع فى العالم بعد الإنجليزى والفرنسى والأمريكى.
ثورة 1919 حققت الاستقلال النسبى، وحررت أول دستور مصرى (دستور 1923) ولكنها لم تنجز الديموقراطية الاجتماعية، والاستقلال التام، ثورة 1952 حققت الاستقلال التام وفشلت فى تحقيق الديموقراطية السياسية وهكذا.
محمد على باشا: بنى الدولة كميراث لأبنائه وأحفاده من بعده فى شخصنة موضوعية، ثورة أحمد عرابى 1882 أيقظت الروح الوطنية وجمعت الأمة خلف الجيش، ولكنها أدت إلى الاحتلال البريطانى، قادة ثورة 1919 أكل بعضهم البعض، وأفرزت محمد محمود باشا (القبضة الحديدية)، وصدقى باشا (الديكتاتور) وكلاهما أمرا بإطلاق النار على الشعب، وعطلا الدستور، ولم يحكم حزب الوفد طوال 1919 – 1952 سوى سبع سنوات، ونخر الفساد عظام الثورة والوطن، ثورة 1952 فشلت فى إنجاز المهام الديموقراطية.. ورغم أنها أعلنت الجمهورية وغيرت طبيعة النظام الحاكم إلا أن اتهامات لازالت تلاحقها بمصادرة العمل السياسى.
كل ذلك يقودنا إلى أن الحلقات المختلفة للثورة المصرية فشلت فى بناء دولة القانون، والدولة الحديثة التى تمتزج فيها الديموقراطية السياسية بالديموقراطية الاجتماعية، دولة مؤسسات تلتحق بركب الحداثة.
عشية ثورة 25 يناير كنت أنتظر ولادة الجديد من رحم الجديد بإخصاب من الروح الوطنية للثورة المصرية، حتى لو تم الأمر بعملية قيصرية، كنت أعرف أن القوات المسلحة تناهض التوريث وفساد رجال الأعمال الذى وصل إلى الإخلال بالسيادة على الأرض عبر تقديم اللائحة السليمانية نسبة إلى المتهم محمد ابراهيم سليمان والتى تشابه اللائحة السعيدية نسبة إلى الخديوى سعيد، وإن كان الخديوى سعيد قد وزع الأرض لخلق طبقة جديدة مصرية وطنية، كأن قرارات التخصيص المباركية السليمانية خلقت طبقة جديدة طفيلية لا ولاء وطنى لها.
وبمتابعة الحركات الشبابية الجديدة كنت أدرك أن تلك الحركات سوف تنقل مصر من الذهنية الأيدلوجية إلى الذهنية التكنولوجية الحديثة، وحينما تمت الجراحة القيصرية (25-28 يناير) أدركت أن الجيش قد تلاقت مصالحه الوطنية مع مصالح الثوار الشباب، وأنه سينزل لحمايتهم حتى لو لم يصدر قراراً بذلك، من ثم علينا أن نتأمل الشخصية الثورية وتركيبة الثورات المصرية سنجد:
1- أن الجيش المصرى يختلف عن كل جيوش العالم، ليس لأنه جيش الشعب فحسب، بل لأنه سبق فى تأسيسه الدولة، وكان المرتكز والأساسات التى بنيت عليها الدولة المصرية
2- منذ تأسيس الدولة الحديثة وحتى الآن هناك عيب خلقى وهو أن الدولة والنظام ملتصقان مثل التوأم الملتصق كلما شرعت ثورة فى إنجاز هذه الجراحة خافت من موت الدولة.
3- استحضرنى دائما مثال ثورة 1973، أقصد نصر أكتوبر لتجسيد الصراع بين الفكر القديم والفكر الحديث، أتذكر مقولة الراحل السادات: "أولادى عبروا القناة وكل واحد فيهم معاه الإلكترون بتاعه" يقصد إدارة العمليات العسكرية بالكمبيوتر، أى سيادة السيادة الذهنية العلمية الاستراتيجية، ولكن بعد النصر فوجئنا بعدم استيعاب العقل المصرى القديم لذلك الفكر العلمى الحديث، ولم تستطع محاولات السادات مصالحة بين العلم والإيمان أن تجد طريقها المستقبلى، انتصر القديم على الحديث، وخذلت العقلية السياسية القديمة العقلية العسكرية الحديثة، وأخضعت الخرافة العلم، وسقط السادات شهيداً نتاج هذا التناقض بين العلم والخرافة، والصراع بين القديم والجديد
4- ومن المنصة 1981 وحتى ميدان التحرير 2011، شعبان وفكران: شعب عبر خط برليف بفكر علمى، واستطاع ذلك الشعب فى 25 يناير أن يتخطى حاجز الخوف وخط (العادلى) 2011، وشعب آخر انتصر 1973 فتقهقر إلى الماضى وشكل ما شاء من جماعات ليعود بنا إلى الماضى السحيق بدلا من تأسيس الدولة الحديثة وسالت دماء فاقت ضحايا حرب عبور الاستنزاف والعبور.
ذات الصراع بين الفكر التقليدى القديم والفكر الحداثى الجديد يتجدد بعد 38 عاما، شباب استطاع بشكل علمى إسقاط خط العادلى بطريقة سلمية أذهلت العالم، وشعب آخر يدير معارك وهمية من معركة الجمل وحتى معركة الجلابية، شعب يسعى للمدنية والحداثة وشعب آخر (مسلمون ومسيحيون) يتصارعون حول المادة الثانية وكأن الإسلام العظيم والمسيحية السمحاء يحتاجان إلى تأكيد واعتراف بهما فى مادة دستورية.
شعب يصارع الزمن للوصول إلى إنجاز الثورة العلمية التكنولوجية واللحاق بثورة الاتصالات، وشعب آخر يتصارع حول الأضرحة وشواهد القبور، شعب يطالب المواطن المصرى برفع رأسه، وشعب آخر يقطع أذن المواطن!!
5- الصراع بين القديم والجديد ليس رهنا على اتجاه سياسى بعينه بل يتواجد داخل كل التيارات السياسية والدينية لذلك نحن بحاجة إلى بناء عقد اجتماعى علمى وحداثى جديد يرتكز على:
أولاً: مصر بلد مؤمن لا يجب فصل الدين عن الدولة أو السياسة بل يجب التمييز بين الدين والدولة والسياسة، عبر استقلالية تامة للمؤسسات الدينية (الأزهر والكنيسة) وإلغاء وزارة الأوقاف، وتأسيس وزارة جديدة لشئون الأديان ترعى مصالح المؤمنين فى إطار قانون خاص عبر استحداث هيئة قضائية لفض المنازعات، وهيئة مرجعية تضم كل التيارات الدينية والمذاهب المسيحية والإسلامية.
ثانياً: لماذا لا يتم إعطاء القوات المسلحة حق التصويت خاصة فى انتخابات الرئاسة؟
ثالثاً: لماذا لا يتم تعيين خبراء ومتخصصين من القوات المسلحة فى المجالس التشريعية خاصة فى اللجان المعنية بالأمن القومى لمصر؟
رابعاً: إعادة تأهيل أصحاب الفكر القديم من أجل دمجهم فى البناء الديموقراطى على قاعدة المواطنة واحترام الدستور والقانون عبر حوار فكر دينى على غرار ما حدث فى الجماعة الاسلامية.
خامساً : لماذا لا تتم كل الانتخابات القادمة تحت شعار (توافق لا تنافس) وأن يكون الرئيس القادم رئيس توافقى وكلاهما لمدة واحدة فقط تكون هى المرحلة الانتقالية.
سادساً: المصالحة الوطنية لا تتعارض مع ملاحقة القتلة والفاسدين وأعداء الثورة، على أن تتم المصالحة على أرضية مصالحة مع تيارات سياسية وليست أشخاص.
سابعاً: نحن بحاجة لخارطة طريق للوصول إلى حوار مجتمعى من أسفل لأعلى، حوار يتم من القاعدة للقمة، حوار يشارك فيه ممثلون للأزهر والكنيسة المصرية، والتيارات والجماعات الدينية المختلفة، حوار تشارك فيه الشرطة والقوات المسلحة، حوار يديره ويشرف عليه الشباب، وليس على غرار حوار الدكتور يحيى الجمل أو الدكتور عبد العزيز حجازى مع كامل احترامى لهما
اللهم إنى قد أبلغت اللهم فاشهد.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة