لم يشغلنى فى تجربة الاستفتاء على التعديلات الدستورية الأخيرة، أن يأتى تصويت الأغلبية عليها بـ "لا" أو بـ"نعم" قدر انشغالى بضرورة أن تتوجه الناس إلى لجان الاستفتاء، لتمارس أول تجربة ديمقراطية حقيقية فى مصر، منذ ما يزيد على خمسين عاما، المهم أن يتعلموا كيفية التعبير عن آرائهم بحرية كاملة دون ولاية من أحد، ولعلمى أنها ليست كارثة أن تأتى النتيجة لصالح "لا" أو لصالح "نعم"، هذا لا يمنع من أننى كنت أميل إلى أن تأتى النتيجة لصالح "لا"، لإدراكى أن هذه التعديلات معيبة، ولا تحقق طموحنا الذى يرقى لمستوى ثورة الخامس والعشرين من يناير المجيدة، فى أن يكون لدينا دستور جديد يليق بمصر وشعبها الذى أذهل العالم أجمع.
كنت أتوقع أن يكون الحضور معقولا، لا يزيد – فى ظنى – بأى حال من الأحوال عن خمسة ملايين مصوت، ولكن المشهد فاق تخيلى فقد رأيت طوابير تعد بالآلاف، كان مشهدا رائعا يدخل إلى النفس البهجة والسعادة، شعرت وقتها بأن الديمقراطية الحقة تحمل الإنسان مسئولية كبيرة، وتجعله حريصا على أن يوصل صوته بأمانة ربما ترجح كفة الميزان لصالح ما يؤمن به.
ورغم أننى لم أهتم فى يوم من الأيام أن يكون لدى بطاقة انتخابية، ولم أتوجه طوال حياتى للإدلاء بصوتى لا فى انتخابات رئاسة الجمهورية، ولا فى انتخابات مجلسى الشعب والشورى، لإيمانى العميق بأنها تمثيلية هزلية، وكنت أحب ألا أشارك فيها، ولكن عندما أحسست -لأول مرة فى حياتى- بأن صوتى سوف يذهب لمن أريد لم أتردد لحظة بأن أتوجه إلى إحدى لجان الاستفتاء وأنا قرير النفس، بل ومتشوق لممارسة هذه التجربة الجديدة علينا، فضلت الذهاب لإحدى اللجان فى وسط العاصمة رغم أننى أقطن مدينة الشيخ زايد، ذهبت إلى أتيليه القاهرة قابلت بعض الأصدقاء وذهبنا سويا إلى أقرب لجنة كانت فى مدرسة تبعد خطوات عن الأتيليه، رأينا طابورا طويلا من الرجال وآخر مجاوراً له من النساء، وقفنا فى طابور الرجال لنأخذ أدوارنا من الساعة الرابعة والنصف مساء حتى السابعة والنصف، طال وقوفنا وأتعبنا الانتظار، لكن لم نشعر بالضيق ولا التبرم إلا من بعض التصرفات الصغيرة لضعاف النفوس الذين كانوا يندسون فى الصف من الأمام، وسرعان ما وجدنا شباباً فى عمر الزهور يتبرعون بتعديل الصف، حتى لا يدخل إلا من عليه الدور، رأيت أناساً بسطاء جاءوا ليعبروا عن آرائهم، ورأيت شبابا صغيراً وشيوخا يتوكئون على عصى، وعجائز من النساء وشابات جميلات، كانت الوجوه كلها مبتسمة فى هذا اليوم التاريخى، كنت أشعر أنه حلم تحقق بعد عناء طويل.
جاءت نتيجة الاستفتاء بـ 77% لـ"نعم" و23% لـ"لا"، على عكس ما أردت، لكن لم أحزن لإدراكى بأنها إرادة الشعب، ولابد وأن نتقبلها بصدر رحب، لأنها ناتجة عن تجربة ديمقراطية حقيقية، ولكى ترسخ هذه الديمقراطية لابد من الحفاظ عليها وقبول الرأى والرأى الآخر، وأعتقد بأننا فى غضون سنوات قليلة قادمة فى ظل هذه الديمقراطية وهذه الحرية، سوف نكون فى مصاف الدول المتقدمة سياسيا واقتصاديا، لأن هذه التجربة الثورية أثبتت أن الشعب المصرى قادر على ممارسة حقوقه السياسية والدستورية بوعى وإيمان عميقين، وأنه لا يستحق إلا أن يعيش عيشة كريمة بدلا من عيشة الإذلال التى عاشها سنوات طويلة أرهقته وأفقدته الثقة فى غد أفضل.
طوابير فى الاستفتاء
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة